تقول الحكاية: إن الأعشى أنشد قوله: «أرقتُ وما هذا السُّهادُ المؤرِّقُ/ وما بي من سُقمٍ وما بِي مَعْشَقُ»، في مجالس فارسية، فسمعه كسرى، فسأل عن معنى ما قال، فأُخبر؛ فقال: «إن كان سهر من غير سقمٍ، ولا عِشق، فهو لصٌّ».

هذه الحكاية تُحيلني إلى مقولتين: الأولى للجاحظ: «الشِعر مَتى حُوِّلَ؛ تَقَطَّعَ نَظمُه، وبَطَلَ وزنُه، وذهَبَ حسنُه، وسَقَطَ موضعُ التعجب»، والثانية لـ«فيتغنشتاين»: «حدودُ لُغَتي هِيَ حدودُ عالَمي».

فما الذي جعل كِسرى يصف الأعشى بأنه لص؛ أهي الترجمة التي أسقطت موضع الحسن، وأبطلت الوزن الثقافي، أم حدود لغة كسرى، أم أن الترجمة محدودة بحقول دلالية متعلقة بلغة كل قوم، ومن ثم فهي ومقولة فيتغنشتاين واحد؟ أم غير ذلك كله؟.


إذا كان المراد بحدود العالم هو الفِكرُ المَعرفي، والعِلمُ، والتصور الميتافيزيقي، والعالم المادي، فكيف يوصل المترجمون المعنى لكسرى -كما صوَّرته حدود الأعشى- على أساس أن تفكيرهم مزدوج، ومن ثمَّ فحدود عالمهم مزدوجة؟ فنلحظ أن الحكاية لم تُورد أن القوم استدركوا على قول كسرى.. هنا نتذكر تغيرًا حدوديًا، بين لغة إمبراطورية، ولغة تبني حدودًا مع العربية بعد انتصار العرب، ولعلها تكون كاشفة للقِشرة العِرقية، فللقصيدة معان تموج في محيط عربي، وللمحيط لغة تتفجَّر منه أنهار بحسب ذاك الزمن.. فهل يستطيع مترجمو كِسرى أن يفهموا المحيط الذي كتب بأمواجه الأعشى؟ ربما سيظل المعنى الحدودي ناقصًا، وستدخل القصيدة إلى معانٍ جديدة، تخلقها حدود أخرى؛ فيأتي سؤال: هل تُرجمت الأبيات الأخرى من القصيدة لكسرى؟ لم تُورِد الحكاية إلا البيت الأول؛ والحكاية عربية، وللعرب اهتمامهم بالمطالع؛ لهذا نحن نتحدث ضمن حدودنا، وما خلقناه من معانٍ، أما الفرس في تاريخهم فلهم حكاية حدودية قد تُظهر الأعشى بلباسٍ لا نعرفه.

لكن سيبقى تأويل يجمع الحدود، ففي الحكاية نفسها، سُمي الأعشى بمُغني العرب، فمن أين للفرس هذه التسمية؟ هل اطلعوا على الكل ولم يجدوا إلا الأعشى مغنيًا؟ أم أن للغناء معنى خفيًا يفسر مقاصد شعرية لكسر الحدود؟.

يبدو أن الغناء مدخل مهم لجمع العوالم، فأما العرب فكان الأعشى يستخدم الإطالة المعنوية، مع تخير البحور الملائمة؛ وأعني تحديدًا أن يُباعد بين المبتدأ والخبر، حتى يُشَنِف أذن السامع قبل أن يختم الأغنية؛ وكأنه في لحظة شَبقٍ موسيقي طويلٍ، بين أوله وآخره مرحلة طويلة لا يريد السامع من المُغني السكوت، ومما يدخل في هذا قوله: «أرقتُ وما هذا السُّهادُ المؤرّقُ..»، هذا الأسلوب «الأعشائي»، أسلوب غنائي، يُوحد عَوالمَ المستمعين، فيدخلهم في دوامة معنوية واحدة، قاعدتها الموسيقى.

وأما الفرس فإنهم دهشوا لسماع النَغَمِ الأعشائِي، الذي رُوعي فيه مقاطع الحروف واقترانها، وتراكيب الكلمات وبنائها، ثم ما ينتج عن هذا من صوت موسيقي راقصٍ غريب؛ وربما من هنا لُقِب الأعشى بـ«صَنَّاجةِ العَرب»، فـ«الصَنْجُ» لفظة فارسية، يعود أصلها إلى الآلة التي يضرب بها، وقد تكون بأوتار، أو من نحاس.. أليس كسرى دُهِشَ لسماعِه؟ ولما تُرجم له ذهبت سَكرةُ الغناء، وجاءت فكرةُ اللغة المباشرة التي قطعت سُبلَ الدهشة الغنائية؟ وربما نستأنِس بمروية أن كسرى لا يستمع لشعراء غير فرس، فما الذي شدَّه لصوت الأعشى غير الغناء في ذاته؟، وربما ليس من جوهر للشعر إلا الغناء في ذاته، ذلك الذي يخترق الحدود؛ فمقولة فيتغنشتاين لا تقع إلا على العلومِ الطبيعية، أو خطاب يحوم حول الحقيقة، لكن الغناء يتخطى الحدود؛ لهذا لما سُئِل يونس بن حبيب: «من الشاعر؟»، قال: «امرؤ القيسِ إذا ركب، والنابغة إذا رهب، وزهير إذا رغب، والأعشى إذا طرب».

والطرب من المتضادات؛ فهو المسرور والحزين؛ ويجمع التضاد الاشتياق إلى شيء، من هنا أورد ابن سلام في طبقاته: «أول من سأل بشعره الأعشى»، فربما مفهوم السؤال هو ما أرَّقَ الأعشى؛ فهو يريد أن يجعل «بتَضادِّه» السائل مسؤولًا، وهذا عكس فعل السؤال لاحقًا بعد صدر الإسلام، وبيان ذلك أن ثمة ثنائية تقول: «إما التَعفّف مُطلقًا؛ لأن الأفق العام يستهجن ذلك، وهذا واقع ما قبل العصرِ الأموي، أو السؤال بالمطلق؛ لأنه أدخل ضمن بُنى الأدب، لهذا جرير لما رأى مُعممًا يدخل على عمر بن عبدالعزيز قال: «يا أيُّهَا الرجلُ المرخِي عمامتَه/هذا زمانُك، إني قد مَضَى زمني»، أما الأعشى فهو من كسر هذه الثنائية، دون أن يخرق العُرف بصورة صعلكية، وقصة قصيدة الأعشى التي سمعها كسرى معروفة، حيث المحلق الكِلابي سأل الأعشى قصيدة، بعد طول عناء في تتبع مكانه، وهذا ربما يُفسر قول خلف الأحمر لما سُئِل: من «أَعجب الشعراء»؟ قال: «الأعشى، لأنه أجمعهم»، والجمع له شأنه المُدهِش.

وأخيرًا: ما الذي جعل كسرى يطلب الترجمة؟ ربما هي إرادة الفهمِ، التي تتلو الطرب، وقد قيل: «التشبيه الحسن يُطرِب الفِكر» ولفظة «يُطرب» من اختياري؛ لأني أريدها متضادة المعنى بين السرور والحزن، ويمكن ترجمتها بغير ذلك، فنحن بصدد حدود، تخلقها حقول اللغة الدلالية، وفي ثقافة العرب ما يتصل بهذا وهو قول: «بالمثالِ يتَّضِح المقال»، فالمستمع يستلذُّ فَهم التراكيب بعد غموضها، وكأن الدنيا أغلقت الأبواب دونه، ثم فُتحت له كلها، ألا يُذكِّرنا هذا بحدود اللغة والعالم؟ هل يستطيع أحد أن يَفضَّها كلها؟!، لعل النفس تطلب من يُطرِب فكرَها بالمثال، أو بالترجمة كما في سياق كسرى، وكأن كسرى لما طُرِب من التراكيب الغنائية في قول الأعشى، أراد أن يفض مغاليق هذا السر، فلجأ إلى من يُتَرجم له، كي يُنعِش فهمَه، ويُمكن أن نتأمَّل: لِمَ قال كسرى إن الأعشى لصٌّ؟، ربما هي لحظة من طَرب الفكر، بالتشبيه الذي نُقِل إليه، ووجد ما يوازيه في حدود منطق لغته.

التفاتة:

هل كان جبران وهو يُغني: «أعطِني النَايَ وغَنِّ/ فالغِنَا يَمحو المِحَن» يتذكَّر الأعشى؟