في كل عام منذ تأسيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية في 1957 ينعقد المؤتمر العام للوكالة في مقرها الرئيسي في فيينا، وفيه تناقش ميزانية الوكالة الدولية للطاقة الذرية ويبتُّ في المسائل الأخرى التي يعرضها مجلس المحافظين والمدير العام، كما وتطرح الدول الأعضاء فيه تطلعاتها وتوجهاتها النووية عبر كلمة يلقيها أحد ممثلي الحكومة وعادة ما يكون مسؤولا عن الشؤون النووية فيها، ويصاحب المؤتمر إقامة منتدى علمي حول مواضيع تتعلق بالتكنولوجيا والعلوم النووية.

المملكة التي بدأت عضويتها في الوكالة في 1962 تشارك بشكل دوري في المؤتمر، وقد مثلها في أول دورة لها أحد مسؤولي وزارة البترول، ومن ثم تعاقب على تمثيلها عدد من المسؤولين، وغالبًا ما يكون سفير المملكة لدى النمسا وهو ممثلها الدائم في الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وقد سبق أن ترأس وفد المملكة رئيس مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية بعد أن أصبحت المدينة مسؤولة عن الطاقة النووية، وبعد انتقال ملف الطاقة النووية إلى مدينة الملك عبدالله للطاقة الذرية، أصبح يترأس وفد المملكة رئيس المدينة، ولكن بعد إنشاء البرنامج الوطني للطاقة الذرية، وإعادة تشكيل منظومة الطاقة بالمملكة، آل قطاع الطاقة النووية إلى وزارة الطاقة، وأصبح وزير الطاقة هو من يترأس وفد المملكة ويلقي كلمتها، وهذا ما شهدناه في السنوات الأخيرة.

في كل سنة تجدد المملكة موقفها السلمي من الطاقة النووية، وتطرح مستجدات ملف الطاقة النووية بالمملكة، وتعلن عن دعمها للمبادرات النووية السلمية، وتؤكد التزامها بالاتفاقيات الدولية المتعلقة بالانتشار النووي، وتدعو إلى تفعيل قرار الأمم المتحدة الخاص بشرق أوسط خالٍ من الأسلحة النووية.


ولكن هذه الدورة تختلف عن سابقاتها، فالجديد في كلمة المملكة لهذا العام والتي ألقاها وزير الطاقة الأمير عبدالعزيز بن سلمان هو الإعلان عن إيقاف المملكة العمل ببروتوكول الكميات الصغيرة والتحول إلى التطبيق الكامل لاتفاقية الضمانات الشاملة.

قبل كل شيء هذا القرار يجسد بلا شك التزام المملكة وتشجيعها للقرارات الدولية المتعلقة بالسلم النووي، حيث جاءت بعد دعوة الوكالة الدولية للطاقة الذرية للدول الأعضاء التي تعمل ببند الكميات الصغيرة للتحول «طواعية» إلى اتفاقية الضمانات الشاملة.

من منظور آخر، قد يدل هذا القرار على قرب تشغيل المملكة لمفاعلها البحثي الأول في الرياض، لأن أنظمة الوكالة والالتزام بمعاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية تحتم على الدول الأعضاء التطبيق الكامل لبرنامج الضمانات الشاملة الملحق بالمعاهدة، قبل إدخال أي كمية من الوقود النووي بمدة لا تقل عن ستة أشهر.

كما أن تلك الخطوة تشكل تحركًا عمليًا باتجاه البدء في استخدام الطاقة النووية لتوليد الكهرباء بالمملكة وتشغيل المفاعلات النووية فيها، إذ لا يمكن أن يتم ذلك إلا في إطار اتفاقية الضمانات الشاملة، يؤكد ذلك إعلان الأمير عزم المملكة بناء أول محطة للطاقة النووية.

ولكن التطبيق الكامل لاتفاقية الضمانات الشاملة قد يترتب عليه مطالبات بتطبيق المستوى الأعلى من الضمانات والذي يحققه البروتوكول الإضافي، وفيه عمليات التفتيش تكون أوسع نطاقًا وأكثر صرامة ومفاجئة.

قد يكون أبرز فرق بين بروتوكول الكميات الصغيرة وبرنامج الضمانات الشاملة هو تعليق عمليات التفتيش عن الدول الواقعة تحت بند بروتوكول الكميات الصغيرة، بسبب محدودية كمية المواد الانشطارية (عادةً أقل من كيلوجرام من اليورانيوم المخصب أو البلوتونيوم) في تلك الدول أو في حالات كثيرة عدم توفرها، فالوكالة مهتمة بضمان عدم تحول البرنامج النووي السلمي إلى عسكري، فلذلك ترسل مفتشيها إلى الدول التي لديها الإمكانات لذلك، وذلك لا يتحقق إلا بوجود كميات كبيرة نسبيًا من المواد الانشطارية في وقود المفاعلات النووية التي تعمل، أما الدول التي ليس لديها مفاعلات نووية أو وقود نووي، فليس من حاجة لإجراء عمليات تفتيش مكلفة عليها.

إن قرار تحول المملكة إلى اتفاقية الضمانات الشاملة وفتح أبوابها لمفتشي الوكالة يبين شفافية المملكة، وسلمية برنامجها النووي، وهو دليل عملي لكل من يشكك بنوايا المملكة من الاستفادة من الطاقة النووية السلمية والحصول على تقنيات دورة الوقود النووي، خصوصًا وأن المملكة لديها مخزون طبيعي من اليورانيوم الخام، وهذا حق مكفول لها بموجب معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية.

ملاحظة أخيرة في خطاب وزير الطاقة هي خلو كلمته من ذكر البرنامج النووي الإيراني كما حصل في الأربع سنوات الأخيرة من تنديد من عدم التزام إيران بالاتفاقيات الدولية المتعلقة ببرنامجها النووي، ولكن كلمة المملكة جاءت عامة بالمطالبة بامتثال جميع دول الشرق الأوسط بمعاهدة عدم الانتشار والتعاون من أجل جعل المنطقة خالية من الأسلحة النووية، وهذا يمثل انعكاسا لتحسن العلاقات بين البلدين.