اعتادَ المصنِفون أن يَقولوا لِمن يَكتب الروايةَ روائيًا، والشِعرَ شَاعرًا، والمسرحَ مسرحيًا، وهكذا.. حتى يَنبَثِق سؤالٌ عن سببِ قولِ القائل الأول: (فلان كاتب)؛ فهل الكاتبُ المقصود هو الذي يكتُب ما لم يُصَنَّف؟ أي أن يُقال (كاتب) إذا لم يَكُن روائيًا أو شاعرًا أو قاصًّا، أو مسرحيًا، أو مترسِّلًا، أو ساردًا، إلى آخر ما يَرِد في الذاكرةِ من تصنيف.

لكن ماذا عن كاتِب المقالة بوصفِها تَصنِيفًا؟ لَم يُقَل عنه (مقاليًّا). ألأنَّه يَقولُ، والمَقالةُ مِن القَول؛ فكيف صار القائلُ كاتبًا؟! أليست هذه مفارقة!. لا تبدو مفارقة عند الأغلب، لأنَّ الكتابةَ -عندهم- صورةٌ ليس إلا.

ومفارقةُ المقالةِ والكتابةِ في ثقافتِنا، تعود -فيما يظهر لي- إلى الأساتذةِ الروّاد، حيث نجد أنَّ المعاجمَ الحديثة أصبحت تُعرِّف المقالةَ بأنَّها مصدرُ القولِ، وفي الآن نفسه هي قطعة مكتوبة. وربما هذا ما صنعَ الابتذالية الحديثة للفظِ (الكاتب)، حيث هو تصنيف عائم، وسَائِل، يَتَّسِق مع حقبةِ الما بعد؛ علامته: أنَّ الروائيَّ يُسَمَّى كاتب، والشاعرَ كاتب، والمسرحيَ كاتب، إلى آخر السيولة المبتذلة.


فماذا لو افترضنا أنَّ ثمةَ شَخصًا كاتبًا، وثمة شخصًا يكتب، على أساسِ أنَّ الأخيرَ تمحو الريحُ كتابته، بعد الانتفاع بها، مثله مثل صاحبِ القول!، وأمَّا الكاتبُ فتَرتَقِي بكتابته الريحُ في مكانٍ متين؟

أذكرُ مفارقةَ (المقالة والكتابة)؛ لأُبيّنَ أنَّ فَنَّ المقالةِ لم يأتِ إلا مُتأخِرًا، وقد كانَ -في بدايته-إبداعًا يُغربل نظرةَ النُقّاد التقليديين للتجنيس المحدد؛ ثم أصبحَ مفهوم (المقالة) لكلِّ مكتوبٍ أصله يُقال في المجالس والمنتديات والقنوات الإعلامية. لهذا يمكن أن نَتخيّل سيناريو للقضاءِ على فنِ المقالة؛ يقول محمد يوسف نجم: «إنَّ المقالةَ لم تَعد في هذا القرن فنًا من الفنونِ الأدبية التي تتجلَّى فيها قدرةُ الأديبِ على الإبداع؛ إذ تَحولت إلى أداةٍ سريعةٍ في يد الصحافة أو غدت وسيلة من وسائل الباحث، يعرض فيها رأيا في موضوعه، أو يبسط نتيجة من النتائج التي توصل إليها». لهذا ظننتُ -من بداهةٍ أولى- أنَّ حُرَّاسَ التقاليد، يَعمدون لإساءةِ سمعة ما لا يريدون، حتى يتخلصوا من ذنبِ تركِ المبادئ من جهة، ولكي يضمنوا عودة المتمردين إلى حظيرة الفنون التقليدية من جهةٍ أخرى. ولا يمكن أن ننسى هجمة الشعراء التقليديين على قصيدة النثر الإبداعية. وفي سياقِ المقالةِ يقول محمد عوض: «كثيرًا ما يجري على الألسنةِ أدب المقالة؛ بوصفها أحقر طراز في العالم الأدبي كله». هذه الإساءة مرتبطة بابتذالِ لفظِ (الكاتب) ولفظِ (الكتابة). بل إنَّ هذه الإساءة قديمة جدا؛ قِدم التَفلسُفِ، فأفلاطون احتقرَ الكتابةَ، ثم صار الوعيُّ الفلسفي يرى أنَّ الكتابةَ تُشكِّل خَطرًا على الكلامِ، حيث إنها تُطلقه من سجنِ المتكلم وذاتيته. لهذا فإنَّ مفهومَ المكتوبِ -الآن- ربما هو قولٌ على أحدِ المنابرِ ليس إلا، ولكن لصعوبةِ القولِ على المنابر لكل أحد، وُضِعَ بقلمٍ مبتذلٍ على الأوراق. لهذا يأتي سؤالٌ مؤرق: مَن الكاتب؟ وما الكتابة؟

هنا لابدَّ أن أذكر فَرقًا -أفترضُه إبداعًا- وهو أنَّ الكاتبَ يَتميّز بأحدِ أضدادِه، وهو ما يُسمَّى: (الباحث) الذي نشأ وترعرع وتلقّن علمَه في الأكاديمية. ومعنى هذا عندي: أنه يُمكِن للكاتبِ أن يبتدعَ -مثلًا- معنىً لمفهوم الشِعر اليوناني -ولو باحتمالٍ بعيدٍ في أحدِ جذوره- دون أن يُجبَر عَلى مسوغَاتِ البحثِ الأكاديمي. وأمَّا الأكاديميُّ فلا يستطيع فعلَ ذلك؛ إذ هو مسجونٌ بسلطةِ المنهجِ العلمي. وأيضًا لابدَّ أن أذكرَ أنَّ ثمةَ طَقسًا قَديمًا عندَ العربِ، هو ذكرهم أنَّ سببَ الكتابةِ؛ هو شخصٌ ما، أو حدثٌ ما. وكأنَّ الكتابةَ تحتاج إلى الاختباءِ وراء الأشياء. وهذا يعني أنَّ الكتابةَ ليست شيئًا. ألا يُذكِّرنا هذا بالجوابِ المرفوضِ «من أجل اللغة»؛ لسؤال: «لماذا تكتب؟» لهذا فسؤالُ: «كيف نَعرف الكاتبَ والكتابة»، أظنَّه لا بدَّ أن يُعقَد بصفاتٍ لا يُؤدّيها الكلامُ الشفاهيُّ أبدًا، إضافة إلى مفهومِ البناءِ المتكاملِ للكتابةِ في ذاتِها في مقابلِ الكلام. ومن ثمَّ فصفة الإدهاش -مثلا-تكون في الكتابة منبثقة من الفكرة المكتوبة؛ إذ يورد التوحيديُّ نقلًا عن عَمْرِ بنِ مسعدة: «الأقلامُ مَطايا الفِطَن»، وهذا القولُ بإمكاننا أن نتأوَّله لصالحِ الفكرةِ المكتوبة التي جاءت من موهبةِ كاتب، لا متكلم. وربما علامتها أنها إذا نُقِلَت بوصفها كلامًا فإنها تتنوّع بحسب القائل. ثم يأتي بعد إدهاشِ الفكرة، تركيبُها في تسلسلٍ من الجملِ المنظومة بخيطِ النغمِ المكتوب لفظًا ومعنىً؛ تحسبه جديدًا وهو مطروحٌ في بئرِ التاريخِ منذ الأزل. وربما يُميَّز الكاتبُ -هنا- بأنَّه أخذَ ماءَه من البئرِ الكبير القديم ذاته، أما غير الكاتبِ فإنَّه يَغرفُ من دلو الكُتّابِ الذين يغرفون من البئرِ العتيق.

لما سُئِل أحدُ الذين يكتبون: لماذا تكتب؟ قال: «أكتب لأنَّ لديَّ شيئًا أقوله»؛ وجوابه هذا يُشير إلى أنه ليس بكاتب، لأنَّ لديه شيئا يقوله لا يكتبه، إذ -بناء على جوابه- لو حَلّ محلَ الورقةِ والقلمِ شيءٌ آخر، لكفاه. وهذا من لوازمِ قوله. ومع ذلك هو مشهور بوصف (كاتب). إذن الكاتبُ مهمومٌ بسؤال: «هل يُغنِي مقام آخر عن كتابةِ ما كُتِب؟» أظنُّ الإجابةَ عن هذا السؤال الصعب، هي مفتاحٌ مهم، حيث نلحظ أنَّ الكتابةَ على وزنِ فعالة، متعلقة بالفعلِ تَعلّقا ذاتيًّا، أمَّا المشافهة فهي مفاعلة؛ مفتقرة لوجود آخر حقيقي.

التفاتة:

كتبَ سيوران: «دائمًا ما أدعو للانتحار بالكتابة، لكنّي أدعو لتجنبه بالقول. وهو مخرج فلسفي في الحالة الأولى، ولكن في الحالة الثانية يتعلق الأمر بكائن، بصوت، بشكوى».

التفاتةٌ أخرى:

لا هوية جماعية تُؤخَذ مِن اللغةِ؛ لهذا يختار الكاتبُ ما سيصير عليه بخلقِ الأفكارِ المكتوبةِ ويُشقّقها نظمًا ومعنىً لا يُناسِبان إلا لغة الكاتب. فمن لم تكن الألفاظ وإنتاج المعاني -بتركيبها المكتوب- هدفه، فهو شِفاهيٌّ حديث. ومِن ثمّ لا معنى لأن يَتحدَّثَ عن الكتابة، بل عن المشافهة الحديثة.