حقق البحث العلمي عن الدماغ البشري، بمراكز البحث النفسية والأحيائية في العالم، تقدمًا هائلا، خاصة فيما يتعلق باستقصاء التصرفات الإنسانية في كل ثانية من حياتنا من غير أن نشعر أن المحرك لتلك التصرفات كلها هو «الدماغ»،

كتاب «المتخفي - الحيوات السرية للدماغ» لمؤلفه ديفيد إيجلمان، والذي سجل حضورًا لافتًا في الدوائر العلمية بالعالم فور نشره بلغته الإنكليزية -بحسب مترجمه الدكتور حمزة المزيني- صار موضوعًا للحوار في الدوريات العلمية، وظل على قائمة صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية لأكثر الكتب مبيعًا على مدى أربعة عشر شهرًا، ويرصد الكتاب كثيرًا من أنواع السلوك البشري التي لا نلقي لها بالا، لكنها تكشف ربما أكثر من غيرها عن طبيعة اللاشعور الذي يوجه تلك التصرفات من السلوك وغيرها.

حسابات عيد الميلاد

يلخص المؤلف بعض هذه الأنواع الغربية من السلوك في قوله: كيف يمكن لك أن تغضب من نفسك فمن هو الذي يغضب من الآخر، على وجه الدقة؟ ولماذا تبدو الصخور كأنها تصعد إلى الأعلى بعد أن تحدق أنت في شلال؟ ولماذا زعم قاضي المحكمة العليا «الأمريكية»، وليم دوجلاس (William Douglas) أنه كان قادرًا على لعب الكرة وصعود الجبال، مع أنه يمكن للناس جميعًا أن يروا أنه مشلول بعد إصابته بجلطة؟ ولماذا صعق توماس أديسون بالكهرباء الفيلة تويسي عام 1916م؟ ولماذا يحب الناس وضع أموالهم في «حسابات عيد الميلاد»، مع أن هذه الحسابات لا تعطي عنها فوائد؟.

ويستمر المؤلف طارحًا المزيد من الأسئلة مثل: وإذا كان الممثل الأمريكي السكران ميل جيبسون (Mel Gibson) معاديًا للسامية وميل جيبسون الصاحي متأسفًا بشكل صادق، فمن هو ميل جيبسون الحقيقي؟ وما الذي يجمع بين رواية يوليسيس وإفلاس الرهن العقاري متغير الفائدة؟ ولماذا تحصل راقصات في نوادي التعري على دخل أعلى في بعض الأوقات المعينة من الشهر؟، حتى يصل إلى التساؤل المهم: ماذا يربط هذه الأشياء كلها بالعمليات التي تحدث وراء الظاهر في الدماغ؟.

تحديات الترجمة

واجه الدكتور حمزة المزيني إشكاليات في ترجمته لكتاب ينطلق في طروحاته من مجتمع ذي سياقات مغايرة للمجتمعات العربية، وذكر أن من الصعوبات التي واجهها أيضال «عنوان الكتاب الأصل» قائلا: حاولت صياغة عنوان الكتاب بصيغ متعددة، لكنها لا تؤدي كلها المعنى الذي يؤديه العنوان الإنكليزي.


وكان أحد التحديات في صياغة العنوان باللغة العربية أنه يبدو أن «حياة» يمكن جمعها قياسيًا على حيوات، لكن هذا الجمع يبدو غريبًا لأنه قلما استخدم في النصوص القديمة، هذا مع أن المعاجم العربية القديمة تورد جمع حياة على «حيوات»، وهذا ما جعل بعض المتخصصين في اللغة العربية يتوقفون طويلا حين استشرتهم في صيغة هذا الجمع، والملاحظ أن هذا الجمع شائع الآن في الاستخدام في الأدب الحديث خصوصًا، أما الأمر الثاني الذي واجهني فهو ما يمكن أن يكون من قبيل عدم الإجماع على المقابلات العربية لبعض المصطلحات العلمية في الإنكليزية؛ لذلك اخترت أن أورد المصطلحات العربية وأرفقها بالمصطلحات الإنكليزية للتسهيل على من يريد الرجوع إليها.

الغضبونات

يخاطب المؤلف القارئ: انظر إلى نفسك في المرآة من مسافة قريبة، إن تحت طلعتك البهية يتوارى كون خفي يتألف من آلية مشبكة يهدر بلا توقف، وتشتمل هذه الآلية على سلم معقد من العظام المترابطة، وشبكة محبوكة من عضلات الجيوب الأنفية، وقدر غير قليل من سائل مخصص، وتعاون بين أعضاء داخلية تهمهم في الظلام لتبقيك حيا، هناك يوجد دماغك وهو يزن ثلاثة أرطال يتكون من أكثر ما اكتشفه الإنسان تعقيدًا من المواد في الكون، وهذا هو مركز التحكم بالمهمة الذي يقود العملية كلها، وهو يقوم بجمع الرسائل المرسلة عبر منافذ صغيرة في حضن الجمجمة المدرع، وبني دماغك من خلايا تسمى «الغضبونات» والدبق العصبي، ويصل عددها إلى مئات البلايين.

والعضو الذي يزن ثلاثة أرطال في جمجمتك -باتساقه الوردي الذي يشبه حلوى «الجيلو» يتكون من أجزاء صغيرة جدًا تنظم نفسها، ذاتيًا، وهو يتفوق بقدر لا يُقاس على أي شيء حلمنا ببنائه، فإذا ما شعرت مرة بأنك كسلان أو متبلد فلا تبتئس فأنت حتى في هذه الحالة أكثر ما على كوكب الأرض شغلا وأكثرها ذكاء. وقصتنا مثيرة بشكل لا يصدق، فنحن على حد ما نعلم النظام الوحيد على كوكب الأرض الذي يبلغ حدًا من التعقيد يدفعنا إلى المغامرة بالدخول في لعبة حل شفرة اللغة التي برمجنا بها.

الدماغ لا يرى المثير

يذكر الكتاب أن علماء الأعصاب لم يكونوا أول من اكتشف أن توجيه عينيك نحو شيء ما ليس ضمانًا لأن تراه، فقد اكتشف السَّحرةُ ذلك منذ زمن طويل، ووجدوا بعض الوسائل للاستفادة من هذه المعرفة، فيقوم السحرة، من خلال توجيه انتباهك، باستخدام حيلة خفَّةِ اليَدِ أمام الجميع، وكان الأحرى أن تكشف تصرفاتهم اللعبة، لكن يمكن لهم أن يطمئنوا لأن عمليات دماغك لا تتعامل إلا مع نتف صغيرة من المنظر المرئي، لا كل ما يهجم على شبكتي عينيك.

وتُساعد هذه الحقيقة في تفسير عدد حوادث المرور الهائل التي يصدم فيها السائقون المشاة على الرغم من وضوح الرؤية والتي يصدمون فيها السيارات التي أمامهم مباشرة، بل ربما يعثر بهم الحظ فيعترضون مسارات القطارات، وتكون العينان في كثير من هذه الحالات تنظران بشكل صحيح، لكنَّ الدماغ لا يرى المثير، ذلك أنَّ الإبصار ليس مجرد النظر.

توليد حكاية

بين علم الأعصاب، في خلال القرن الماضي، أن الذهن الشعوري ليس هو من يقود السفينة، ويعني ذلك أننا نشعر، بعد أربعمائة عام تقريبًا من سقوطنا من مركز الكون، بسقوطنا من مركز أنفسنا، نفاذنا الشعوري إلى الآلية التي تعمل في رؤوسنا بطيء، وهو لا يحدث إطلاقًا في أكثر الأحيان، ثم تعلمنا بعد ذلك أن الطريقة التي نرى بها العالم لا تجعل ما نراه مطابقًا بالضرورة للعالم الخارجي كما هو: ذلك أن الإبصار بنية من صنع الدماغ، ويقتصر عمله على توليد حكاية مفيدة تتناسب مع مستويات تفاعلاتنا، ولنقل مع الفواكه الناضجة، والدببة، ومَنْ نتزاوج معهم. وتكشف أوهام الإبصار مفهومًا أعمق: وهو أن أفكارنا تولدها آلية لا يمكن لنا النفاذ إليها مباشرة، وقد رأينا أن العادات المفيدة تُنسَخ في دوائر أدمغتنا، ثم لا نعود بحاجة إلى النفاذ إليها بعد أن تُثبت هناك.

دوافع شهوانية

يوفر لنا فهمنا الأعمق لعوالمنا الداخلية نظرة أوضح للمفاهيم الفلسفية، ولنأخذ مفهوم الفضيلة، مثلا، فقد ظل الفلاسفة آلاف السنين يسألون عن ماهيتها وما يمكن لنا فعله لتعزيزها، ويمكن أن يُزوّدنا إطار الفريق من المتنافسين بسبل جديدة لتعزيزها هنا، فيمكن لنا غالبًا أن نؤول العناصر التنافسية في الدماغ على أنها تماثل العربة والمكابح: فتقوم بعض العناصر بقيادتك نحو سلوك ما في حين تحاول بعض العناصر الأخرى إيقافك، وربما ظُنَّ لأول وهلة، أن الفضيلة تتكون من عدم الرغبة في عمل الأشياء السيئة، لكن ما يحدث في إطار أكثر عمقًا في تبيين الفوارق أنه يمكن أن يكون لدى شخص فاضل دوافع شهوانية قوية إن كان لديه القوة الكافية للتغلب عليها.

ديفيد إيجلمان

ولد في 1971.

 حصل على الدكتوراه في علوم الأعصاب من كلية بايلور للطب في هيوستن الأمريكية.

مهتم بالآداب.

نشر بعض الروايات.

اشتهر بأبحاثه العلمية في علوم الأعصاب، والصلة بينها والقانون.

 ترجم كتابه «هذا المتخفي حيوات الدماغ السرية» إلى سبع وعشرين لغة.

الدكتورحمزة بن قبلان المزيني:

ولد بالمدينة المنورة.

دكتوراه من جامعة تكساس في أوستن «في اللسانيات».

أستاذ متقاعد بجامعة الملك سعود.

من ترجمات:

«اللغة ومشكلات المعرفة»، نعوم تشومسكي.

«الغريزة اللغوية.. كيف يبدع العقل اللغة» ستيفن بنكر.

 «دراسات في تأريخ اللغة العربية»، مقالات كتبها بالإنكليزية بعض المستعربين عن اللغة العربية.

 «العولمة والإرهاب حرب أمريكا على العالم»، مقالات لنعوم تشومسكي.