بانتظار ما سيفصح عنه الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط نفسه، وكتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، عن ظروف احتجاز الجندي الإسرائيلي 1941 يوماً داخل قطاع غزة.. ما زالت أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية "الموساد" تتجنب السؤال الأصعب في هذه القضية وهو كيف أخفقت في الوصول إلى شاليط طوال هذه المدة؟
الفحوصات الطبية التي أجريت للجندي الإسرائيلي فور وصوله إلى إسرائيل تشير إلى أنه كان طوال هذه الفترة بعيدا عن الشمس وعن الناس وهو ما يعزز فرضية أنه كان موجودا تحت الأرض في غزة الساحلية ذات الكثافة السكانية الأعلى في العالم.
محاولات فاشلة
لم تترك الحكومة الإسرائيلية وأجهزتها الاستخبارية والعسكرية وسيلة إلا ولجأت إليها في مسعى منها للوصول إلى شاليط ومحاولة تحريره عسكريا واستمر ذلك حتى إبرام الصفقة حيث يقول مراقبون "إن أحد أهم الأسباب التي دفعت حماس إلى إبرام الصفقة دون الاستجابة لمطالبها كاملة هو خشيتها من ألا تتمكن من الاحتفاظ بالجندي لفترة أطول فضلا عن الخشية من أن يؤدي أي تدهور في حالته الصحية إلى إنهاء الصفقة من أساسها سيما أن إسرائيل اشترطت دفع الثمن مقابل أن يكون على قيد الحياة".
فمع أسر الجندي الإسرائيلي في عملية "الوهم المتبدد" النوعية وغير المسبوقة من قبل 3 فصائل فلسطينية، بما فيها حماس، أبلغت الحكومة الإسرائيلية رئيس المخابرات المصرية آنذاك اللواء عمر سليمان أنها "لن تدفع ولو أسيرا واحدا مقابل الجندي الإسرائيلي وأن المطلوب من حماس هو أن تسارع إلى تسليم الجندي الإسرائيلي إذا ما أرادت إنقاذ نفسها"، وهي الرسالة التي نقلها سليمان إلى رئيس المكتب السياسي للحركة خالد مشعل.
تحت الأرض
غير أن إصرار حماس ومعها الفصائل الأخرى الآسرة للجندي على ألا يتم الإفراج عنه إلا بمقابل أسرى في السجون الإسرائيلية دفع بأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية إلى عدة مسارات لتحديد مكان الجندي الإسرائيلي ومن ثم تحريره ولو عسكريا وهي عملية أدركت الأجهزة الاستخباراتية الإسرائيلية أنها لن تكون سهلة سيما بعد أن ساد الاعتقاد أن حماس تحتجز شاليط تحت الأرض في منطقة مكتظة سكانيا.
وقتل الجنود الأسرى خلال عمليات عسكرية ليس بالأمر الجديد بالنسبة للجيش الإسرائيلي والاستخبارات الإسرائيلية فهذا ما حدث في عدة حالات بينها محاولة تحرير الجندي نحشون فاكسمان في قرية بير نبالا، شمال القدس، حيث قتل الجندي وعدد من آسريه فيما تم اعتقال اثنين منهم تم تحريرهم في صفقة تبادل الأسرى الجديدة.
وساد الاعتقاد أن أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية كانت على استعداد لتنفيذ عملية إنزال كوماندوز إسرائيليين في منطقة وجود الجندي شاليط من أجل إطلاقه حتى لو أدى ذلك إلى قتله.
اللجوء إلى المنجمين
وتضمنت المسارات التي لجأت إليها أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية لتحديد مكان شاليط في الأيام الأولى تجنيد جميع عملائها في قطاع غزة لمحاولة البحث ولو عن إشارة واحدة عن مكانه بما في ذلك البحث في أكوام القمامة عن ضمادات الجروح التي قد تكون استخدمت لتطبيب الجندي الذي أصيب خلال عملية الأسر وذلك بتتبع الآثار بعد العملية.
وكذلك السعي لاعتقال أكبر عدد ممكن من النشطاء العسكريين في حماس في محاولة للحصول منهم عن معلومات عن مكان احتجاز الجندي الإسرائيلي، حيث تم إحباط العديد من محاولات الاعتقال وإن كانت الاستخبارات الإسرائيلية نجحت في اعتقال البعض.
كما عمدت الاستخبارات الإسرائيلية إلى تجنيد السكان العاديين في مهمة البحث عن شاليط من خلال رصد مكافأة مالية كبيرة لمن يدلي بمعلومات عن مكان وجوده وذلك من خلال رسائل صوتية تم إرسالها عبر الهواتف الأرضية ورسائل نصية تم إرسالها عبر الأجهزة النقالة.
كما لجأت إلى منجمة إسرائيلية مشهورة في محاولة لتحديد مكان احتجاز شاليط.
وراقبت الاستخبارات الإسرائيلية غزة جوا على مدار الساعة في محاولة لتحديد مكان احتجازه سيما بعد عمليات اعتقال لكوادر من حماس حيث يعتقد أنه يتم تغيير مكان احتجاز الجندي خوفا من تمكن المخابرات من الحصول على أي معلومات قد تؤدي إلى تحديد مكانه.
ولجأت إلى استخدام نواب حماس في الضفة الغربية كورقة مساومة وذلك باعتقالهم واشتراط الإفراج عنهم بالإفراج عن الجندي الإسرائيلي.
بالمقابل أشارت مصادر فلسطينية مطلعة إلى أن خاطفي الجندي الإسرائيلي لجؤوا إلى عدة خطوات للحفاظ على الجندي الإسرائيلي لأطول فترة ممكنة وعدم تمكين أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية من الوصول إليه، ومنها:
أولا: إبقاء المسؤولية عن الحفاظ على الجندي الإسرائيلي ضمن حلقة ضيقة للغاية بحيث اقتصرت على عدد محدود جدا من الأشخاص تحت المسؤولية المباشرة لقائد الجناح العسكري لحركة (حماس) أحمد الجعبري.
ثانيا: الامتناع عن استخدام أي من أنواع التكنولوجيا المتقدمة وخاصة الهواتف النقالة من قبل الآسرين وتحديدا في مكان احتجاز الجندي الإسرائيلي.
ثالثا: نقل الجندي الإسرائيلي من مكان إلى آخر كلما شعر الآسرون أن من الممكن أن يكون هناك ما يلفت الأنظار إلى مكان وجوده، مع التأكيد على التمويه على المخابرات الإسرائيلية في تسريب معلومات عن أماكن خاطئة عن وجوده.
رابعا: سعت حماس لإبقاء المسؤولية عن الجندي في يدها حصرا لتفادي أن تؤدي أي خلافات مستقبلية مع إحدى الفصائل الآسرة للجندي إلى الكشف عن مكانه علما بأنه وقعت لاحقا خلافات بين حماس وإحدى الفصائل الآسرة كما حاول قيادي أمني فلسطيني كبير سابق في غزة أن يشتري الجندي من إحدى الفصائل الآسرة.
وثمة حالة واحدة على الأقل، تؤكد أن أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية كانت على وشك الحصول على معلومات مؤكدة عن تواجد شاليط حينما سرت معلومات خلال الحرب الإسرائيلية على غزة عن وجوده في نفق تحت الأرض في منطقة الجامعة الإسلامية.
يذكر أن عملية نقل الجندي الإسرائيلي إلى الجانب المصري من معبر رفح في يوم إبرام الصفقة تمت في عملية تمويه كبيرة إذ جرى وضعه في سيارة من نوع "ماغنوم" كانت واحدة من أكثر من 10 سيارات من نفس النوع انتقلت إلى معبر رفح الحدودي ليخرج من إحداها برفقة القيادي في كتائب القسام أحمد الجعبري.
ومعلوم أن تلك كانت المرة الأولى في التاريخ التي تتمكن فيها فصائل فلسطينية من الاحتفاظ بأسير إسرائيلي طوال هذه الفترة الزمنية داخل الأراضي الفلسطينية كما أنها المرة الأولى التي تتم فيها عملية تبادل أسرى داخل الأراضي الفلسطينية إذ إن كل عمليات التبادل السابقة تمت مع جنود تم الاحتفاظ بهم خارج الأراضي الفلسطينية وتحديدا في لبنان.
خطط أمنية
وفي هذا الإطار، أجمع خبراء أمنيون مصريون على أن نجاح حماس في الإبقاء على شاليط، يعكس أنهم نفذوا خططاً أمنية شديدة الإحكام استفادوا فيها من واقع صراعهم الاستخباراتي الطويل مع إسرائيل.
وقال الخبير الأمني العميد محمود قطري إن "الخبرات الأمنية لحماس أقل بكثير من الخبرات الأمنية الإسرائيلية، كما أن غزة تعرضت لعمليات عسكرية مكثفة من القوات الإسرائيلية، لكنهم بالرغم من كل هذا نجحوا في إخفائه من خلال تنفيذ مجموعة من الخطط الأمنية شديدة الإحكام".
ويرى قطري أن "حماس كانت تحتفظ بالجندي الإسرائيلي داخل الأراضي الفلسطينية، وتحديداً داخل غزة، واعتمدت في ذلك على خبراتها الطويلة في التعامل مع الدهاء والخبث الاستخباراتي الإسرائيلي، وهو ما سبق أن حدث أثناء الهجمات التي نفذها الجيش الإسرائيلي لاغتيال الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، فكثيراً ما كانت إسرائيل تكثف هجماتها على أماكن تعتقد أن عرفات موجود بها، ثم تفاجأ بأنه غير موجود في تلك الأماكن، والأمر نفسه أثناء الحملة العسكرية الإسرائيلية على غزة، ففي الوقت الذي استهدفت القوات الإسرائيلية فيه كل شبر في غزة، فإنها لم تنجح في النيل من قيادات في حماس بحجم إسماعيل هنية رغم وجودهم داخل غزة". ويضيف قطري "إغراق حماس، والفلسطينيين بصورة عامة في محليتهم بكل ما فيها من تضاريس جغرافية وطبيعة بشرية، هو الذي ولّد لديهم هذا القدر الكبير من الإبداع الأمني الذي حير كثيراً من أساطين الأمن في العالم".
ثقافة الأنفاق
ويرى الخبير الاستراتيجي اللواء سامح سيف اليزل أن "عملية إخفاء أسير مختطف في قطاع صغير تحت الحصار مثل قطاع غزة، عملية تحتاج إلى تدابير واسعة، وخطط متميزة، خاصة أن العدو المقابل يمتلك أجهزة استخباراتية وعملاء، ويمكنه تجنيد العشرات في الداخل الفلسطيني، ويغدق عليهم ملايين الدولارات".
وأضاف سيف اليزل "هذه الصفقة قصمت ظهر إسرائيل، لدرجة أنها تتعامل معها على أنها هزيمة معنوية شديدة جدا لحقت بها من عدوها اللدود في غزة الذي تسومه سوء العذاب عبر حصار مميت وخانق".
وقال "إن ثقافة الأنفاق التي تشتد الحاجة إليها في زمن الحصار، وفرت لحماس فرصة كبيرة لإخفاء شاليط، والتنقل به من مخبأ لآخر، بطرق غير تقليدية يصعب رصدها من بعض العناصر التي سعت إسرائيل لتجنيدهم خلال السنوات الخمس التي اختطف فيها شاليط".
وذكر سيف اليزل "أن حماس أحبطت محاولات إسرائيلية عدة لمعرفة مكان شاليط من خلال زرع أكثر من عميل داخل الجناح العسكري للحركة، لكن سرعان ما كان يتم كشفهم مع الوقت، نظرا ليقظة أفراد كتائب القسام، وتفانيهم من أجل هذه القضية، خاصة مع تعقيدات عمليات التفاوض حول الأسرى، وارتفاع سقف التفاوض حول الإفراج عن أسيرات والمقدسيين الذين رفضت إسرائيل دخولهم إلى بلادهم".
وأشار سيف اليزل إلى أن "الهدف الرئيسي لإسرائيل كان الوصول إلى مكان إخفاء شاليط سواء عن طريق زرع أجهزة تنصت داخل أجهزة اللاسلكي التي كان العملاء يزودون الحركة بها أو عن طريق العلاقات الشخصية التي أقامها العملاء أنفسهم مع كبار قادة الجناح العسكري".
مناخ الحرب
من جانبه قال مستشار المركز القومي لدراسات الشرق الأوسط اللواء محمود خلف "إن خبرة كتائب القسام، والتفاني الكبير المبني على العقيدة، جعل عملية إخفاء شاليط، شديدة التعقيد على الجانب الإسرائيلي".
وأضاف "الجانب الفلسطيني لا بد أنه كان يلجأ إلى سياسة التمويه ليس لتفويت الفرصة على رصد شاليط من قبل عملاء إسرائيل، أو حتى أجهزة تصنتها، بل على أفراد حماس العاديين، وهذا الحرص في رأيي وفر السرية الكافية للبقاء على شاليط كل هذه المدة رهن الاعتقال دون الوصول إليه".
وانتهى خلف "إلى أن مناخ الحرب الذي يعيشه قطاع غزة مع إسرائيل يختلف عن مناخ السلم، بالنسبة لأي دولة أخرى، وبالتالي توحدت هذه المقومات في إخفاء شاليط عن أعين إسرائيل بل وأميركا أيضا".
شراك خداعية
من جهته، يرفض الخبير الأمني اللواء رفعت عبدالحميد إمكانية وجود جلعاد شاليط داخل الأراضي الفلسطينية طوال تلك الفترة مرجحاً وجوده في دولة أخرى ترتبط بها حماس ارتباطاً آمناً.
ويقول "أعتقد أن شاليط كان موجوداً في مكان آمن خارج النطاق الإقليمي الفلسطيني، فعلى مدى تاريخ صراعهم مع الإسرائيليين، أتقن الفلسطينيون حيل الحرب وأصبحوا يتصرفون من منطلق أن الحرب اليوم ليست حرب أسلحة، وإنما حرب خداع ينتصر فيها من يمتلك الشراك الخداعية التي يصعب على عدوه تخيلها".
ويضيف عبدالحميد "في تصوري أن الفلسطينيين اعتمدوا في سيناريو إخفاء شاليط على قاعدة جنائية تقوم على أساس أن إخفاء الأشياء المسروقة يجب أن يكون في مكان بعيد عن مكان تواجد السارق، وهو نفس السيناريو الذي لجؤوا إليه في تسليم شاليط، حيث اختاروا أن يكون تسليمه في أرض أخرى غير أرضهم، وأن يضمنوا توفر غطاء إقليمي ودولي لتنفيذ عملية التسليم والتسلم".