تفصح هذه النسب عن أن الإحساس بمقروئية ابن تيمية إحساس مضخم؛ ساعد على ذلك دعاية الدعاة والوعاظ والمذكرين، ففي الفترة ذاتها مثلا شوهد أو حمل كتاب «وحي القلم» للرافعي (359019)؛ أي (25644) مرة في العام، وهو عدد يمثل ثمانية أضعاف تحميل أو مشاهدة كتاب السياسة الشرعية، واثني عشر ضعف رسائل ابن تيمية، وأربعة أضعاف مشاهدة أو تحميل مجموع الفتاوى.
لكن هناك فرقًا بين قراءة هذا وذاك هو أن قراءة الرافعي هي قراءة مهارة، بينما قراءة ابن تيمية هي قراءة لصنع المعنى؛ لذلك فالقراءتان مختلفتان في الأثر الذي ينتج عنهما، قراءة ابن تيمية قراءة تدريب روحي، بينما قراءة الرافعي قراءة تدريب أدبي، وقراءة ابن تيمية نشاط مقدس، بينما قراءة الرافعي نشاط دنيوي، تفتح قراءة ابن تيمية الأسرار المقدسة للنصوص الدينية، وتفتح قراءة الرافعي أسرار النصوص الأدبية الدنيوية؛ فضلا عن ذلك وهو المهم فيما أرى أن قراءة ابن تيمية توفر وسيلة لقرائها إلى الوصول إلى ما يعتبرونه الحقيقة، وهذا ما لا توفره قراءة الرافعي الأمر الذي يجعل نوع القراءة كقراءة ابن تيمية خطرًا؛ فهي ليست قراءة متعة، ولا تسلية، ولا قضاء الوقت، بل هي قراءة فعالية، بحيث تتحول القراءة من مجرد مهارة للبحث عن المعنى إلى نافذة يطل منها البشر على حقيقة أعظم يرون من خلالها العالم وموقعهم فيه، ولا مجال أمام القارئ لأي وجهة نظر أخرى سوى وجهة نظر النص الديني، وأن هذه الوجهة هي الإطار الذهني الوحيد للقراءة؛ فقراءة النصوص الدينية تعلم البشر التاريخ، وتفهمهم معنى العقيدة، وتقودهم إلى السلوك الأخلاقي في حياتهم اليومية، وتبن لهم من هم، ومن أين أتوا، والهدف الذي خلقوا من أجله.
2
التحيّز في القراءة موجود، ونحن نعتبر هذا التحيّز واقعيًا؛ لأن القارئ لا يستطيع أن ينظر إلى نتاج ابن تيمية إلا من وجهة نظر معينة، وإذا ما أخذنا هذا الموقف بعين الاعتبار فسيتعزز فهمنا للصراع بين هؤلاء وأولئك بعرض وجهات نظر متعارضة، لقد وجدت الفرصة فعلا أمام قراء ابن تيمية للانتقال من قراءة الاختلاف في القرون الوسطى إلى قراءة الأصوات المتنوعة في العصر الحديث، لكن ذلك لم يحدث، فقد استمرت قراءة العصور الوسطى حتى أصبح ابن تيمية جانيًا ومجنيًا عليه، يشارك قارئ ابن تيمية في القرن العشرين قارئه في العصور الوسطى في قراءة المحتوى؛ أعني نتاج ابن تيمية، لكن القراءة في العصر الحديث لم تعد هي ذاتها القراءة في العصور الوسطى، فموسوعة القارئ الحديث (معارفه ومعلوماته) أوسع بكثير من موسوعة القارئ القديم، وهذا يؤثر تأثيرًا كبيرًا، لأن القارئ يخرج من النص بمقدار ما يضع فيه، والمعنى أن معارف القارئ، ومعلوماته وأفكاره واتجاهاته تلعب دورًا كبيرًا في تكوين معنى النص المقروء.
هناك عناصر مترابطة في القراءة بمفهومها الحديث كفرضيات القارئ، ومبادراته واقتراحاته ومعارفه، وكل عنصر من هذه العناصر مهم لأسئلة يسألها القارئ الحديث حين يقرأ: ما الفرضية التي يفترضها وهو يقرأ؟ ما المعلومات التي يستدعيها من ذاكرته لدعم فرضيته؟ ما علاقة الفرضية بالمعنى الذي يبنيه من النص المقروء؟.
كل هذه الأسئلة تفضي إلى المعنى الذي يبنيه القارئ، وهو بطبيعة الحال معنى القارئ، وليس شرطًا أن يكون معنى المؤلف، ومن المهم في سياق قراءة ابن تيمية أن نفرق بين الطرق التي يكون بها قراءه المعنى. فهناك أولا حالة القارئ الوعاء الذي يملأه العلماء والوعاظ والدعاة باعتبارهم هم الذين يعرفون معنى ما كتبه ابن تيمية، وما على الآخرين إلا أن يتلقوا المعنى منهم، هناك حالة القارئ الخادم إما لابن تيمية أو لنص ابن تيمية فهو دائم البحث عن المعنى الذي يقصده ابن تيمية أو الذي يقصده نص ابن تيمية.
وهناك حالة القارئ الذي تحرر من معنى الآخرين، ومن معنى المؤلف ومن معني النص؛ ليبني هو نفسه المعنى من قراءته النص؛ فالمعنى لا يكتشفه القارئ بل يكوّنه، إذن فقد تغير معنى القارئ والقراءة، وتغيرت معهما طبيعة المعنى؛ فالمعنى ليس شيئًا يمنحه عالم دين إلى الآخرين، فضلا عن ذلك، فالمعنى لم يعد ثابتًا كما كان في ثقافة العصور الوسطى، بل متغير، ومع تغير القارئ والقراءة والمعنى تغير معنى المعرفة؛ بحيث أصبحت المعرفة متغيرة بشكل مستمر في ضوء ما يستجد من أفكار وخبرات ومعلومات، وبتغير هذه المفاهيم كلها تغير مفهوم الحقيقة؛ فما يعتبره الناس اليوم على أنه حقيقة يعتبر مؤقتا.
3
تستحق هذه النسبية الثقافية أن نؤكد عليها، فوفقًا للنموذج التقليدي فإن مهمة قراءة رجل الدين الابن تيمية هي أن يقدم المعنى الحقيقي للقراء من العامة، لذلك فأغلب نصوص ابن تيمية التي يقرأها المبتدئ في تعلم العلوم الدينية هي في الغالب شروح وجمع وتلخيص لكتب ابن تيمية، وفي هذا السياق لا يمكن أن نتجاهل ممارسات ثقافية كهذه؛ أعني الشرح أو الاختصار، فهي على نحو ما قراءة لابن تيمية، وهي في الغالب قراءات ملتبسة إما بحسن النية أو بسوئها، فشرح كتب ابن تيمية يحمل صدى ابن تيمية ومحاكاته، فضلا عن ذلك فالشرح موقف تعليمي أكثر منه موقفًا تأليفيًا، فإن يشرح رجل الدين كتب ابن تيمية فهذا يعني، من جهة، إيمانه بجدوى كتب ابن تيمية، ومن جهة ثانية يعني إيصال كتبه إلى أكبر قدر ممكن من الناس، و بإمكاننا أن نضيف تسهيل درسه و تحصيله لتسليم الشارح بأهمية المشروح.
من جهة أخرى فالشارح هو واسطة بين القارئ وبين كتب ابن تيمية، وهي واسطة تبعث على الريب؛ فعند مستوى معين تبدو الرغبة في شرح كتاب ما رغبة في تجاوز الكتاب ذاته؛ لأن الكتاب هوية لا تقبل الاختراق مادام يحمل توقيع مؤلف آخر هو ابن تيمية، عندئذ يجوز القول إن ما يفعله شارح ابن تيمية كتابة أو شفهيًا تجاوز ينطوي على إدانة للكتاب والكتاب بالقصور، فالشارح إذ يتوسط بين مؤلف الكتاب وبين القارئ، فهو يعتبر نفسه أعلم منهما معًا، فالقارئ قاصر لأنه لا يستطيع أن يقرأ ويستوعب الكتاب، وابن تيمية قاصر لأنه عجز أن يقدر المعرفة باللفظ الذي يناسبها، الشرح من هذا المنظور اتهام مبطن بأن ابن تيمية غامض، فهو لم يقدم المعرفة الدينية في وعائها اللغوي المناسب، وشراح ابن تيمية، حين يقيمون بين كتبه وبين القارئ، من حيث هم وسطاء، فهم بمعنى ما يزعمون إنقاذ كتبه من الغموض، وهو عمل لا يخلو من العنف الذي لم تكن تجرمه أو تدينه المؤسسة الثقافية بشكل عام والمؤسسة الدينية بشكل خاص، وفي أي حال، حين لا يبقى لرجل الدين إلا شرح الكتب أو تلخيصها فإن المعرفة الدينية تتحول إلى اجترار وإعادة وتكرار من جهة، ومن جهة أخرى ريبة وانتهاك للكتب ومؤلفيها بنية حسنة أو سيئة.