يَروي المِصريون أنَّ ملحدًا قام بين فلاحين يُحاجج -بلغةٍ بسيطة- على أنَّ الله غير موجود، وحين توقّفَ ليشرب ماءً أراد فَلّاحٌ استغلالَ هذا الصمت، فرفعَ صوتَه: «وَحِدوووه».. فَضَجّ المكانُ بصوتٍ واحد: «لا إله إلا الله».

هنا تنتهي حكايةٌ، لتبدأ أخرى، هي حكايةُ (الضحكِ)، مما جرى، الضحكِ الذي هو جزءٌ من الوجود؛ ألم تُدخلنا هذه الحكاية في معنى من معاني سؤال الوجود، ثم ها نحن نضحك؟

لهذا سأطرحُ سؤالين:


الأول: هل لنا أنَّ نُسمِّي فعلَ الفَلّاح استغلالًا للصمتِ؛ كي ينقض حجةَ الملحدِ بأسلوبٍ معقودٍ بالبواطن لا الظواهر؟ إن قلنا نعم؛ ستكون المحاججةُ التي تفرض نمطًا واحدًا تنقض نفسَها أمام سعة الوجود، لأنَّ في قول (نعم) نقض لأهم أسسِ المحاججة المنطقية.

والثاني: هل صَمْتُ الملحدِ بسيطٌ؟ أم رمز لصمتٍ وجودي بما أنه جاءَ في حكايةٍ وجودية؟

تفترض المقالةُ أنه صمتٌ وجوديٌّ، أو هو صمتُ التفكيرِ الفعلي بعلاقةِ الطبيعي بما وراءه، ومن هنا يكون الصمتُ الوجودي هو المجال الذي نضحك فيه، وهو ما يمكن لنا أن نراه مشهدًا كوميديًا؛ أليست الكوميديا الأرسطيّة -بشكلٍ ما- هي محاكاة لأفعالِ أراذلِ الناس؟ وهذا ما صنعته الحكايةُ عندما حاكت أفعالَ الفلاحين.

قد يضحكُ القارئُ في هذه الحكاية من جهدِ الملحدِ المهدر، أو مِن رداءةِ فَهمِ الفلاحين للمنطق، أو من رداءةِ فهمِ الملحدِ للجانبِ المعرفي في المنطق، أو رداءته في فَهمِ منطقِ الطبيعةِ المتغيّر، وقد يضحك من منطقٍ يُصَور الوجودَ كالجوزة، أو يضحك من المفارقة الحكائية ليس إلا، أو غير ذلك.

لكن ثمةَ ما هو مُتفق عليه، وهو حالةُ الصمتِ الوجوديِّ المستَغلّة للإضحاك؛ وكأنَّ الضحكَ وسيلةٌ للفرحِ، وليس هو الفرح؛ لهذا فإنَّ الذي استَغلَّ الصمتَ في الحكاية ليس ذاك الفلاح الذي قال «وَحِدُوه» فحسب، بل كل الحاضرين في الحكاية بالتساوي؛ لأنَّ الصمتَ حقيقيٌّ، والاستغلالَ لم يكن مقصودًا، فكأنَّ أصحابَ الحكايةِ اتفقوا على أن يصنعوا حدثًا يُنسّيهم كآبةَ الواقع، لكنَّ الأمرَ أنهم لم يتفقوا بل اتُفق بهم، والذي اتفقَ هو (الخطاب) الذي يعيشون به، وبتناقضاته؛ ليواصلوا كآبة الحياة بصمتِ الوجود الضاحك.

أذكر أنَّ كاتبًا غربيًا صالَ وجالَ في الثقافةِ، ولمَّا أرادَ أن يَخطّ آخر سَطرٍ في حياتِه قالَ: «إن لم يرتبط اسمي بالضحك، فلا أريد أن أكونَ معروفًا»، إنها مقولة تذكرنا بصمت الوجود الضاحك، وهو ما سعت إليه الفلسفات، بل الديانات أيضا، كي يستمر خطابُها -المضاد للصمت- فاعلًا في أهله، فلنتأمل النصَ الذي أورده مسلم: «يا حنظلة ساعة وساعة»، وهو قولٌ في سياقِ استنكار الضحك على حنظلة، ويكمل معناه حديثٌ آخر نَصّه: «رَوّحوا القلوب ساعة فساعة».

ونجد في سِفر الأمثال التوراتي نصَّ: «القلبُ المرح، حياةٌ للجسم»، إذن كأنَّ الديانات تفترض الكلامَ المتّصل، بالمحاججةِ الضيقة، والتفكير المحدود بنصوصٍ ما، وألا تصمتَ كيلا يتحدث نصٌ ينقض الاتصالَ، لكن في الوقتِ نفسِه تدعو لصمتٍ وجودي يُساعِد الجسدَ على الضحكِ الذي يُسكِت الذهن؛ لتتجدَّد خلايا الحياة بالمتكلم فيستمر في الكلام، لكنَّ الأهمَ ما أورده مسلم أيضًا، وهو: «يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر؛ كلاهما يدخل الجنة»؛ إذ لا يمكن أن نتجاوز فكرةَ (التضاد) التي ضَحِكَ (الله) منها، وكأنَّها جزئية من الصمتِ الوجودي، الذي يُنتِج الضحكَ، فالنسيانَ، فشيئًا من الفرح، ويجتمع هذا النصُّ مع آية: (وأنًّه هو أضحكَ وأبكَى)، وهذه الآيةُ تُوجِدُ فينا سؤالًا: ‏ألا نلحظ أنَّ الفلاحين وجّهوا الملحدَ، وقراءَ حكايتهم، من الطبيعي إلى ما وراء الطبيعي، فأنتجوا ضحكًا، وهذا -في الظاهر- عكسَ ما أراده برغسون في كتابِه (الضحك)؛ إذ يفترض أن يكون ما وراء الطبيعةِ مخيفًا، وأما الطبيعيُّ فمصدرُ الضحكِ، كخطيبٍ يُذَكّر المجتمعين بالآخرة، ثم يرتطم رأسُه بمكبر الصوت، فيضحك الحضورُ بعد أن كانوا خائفين أو قلقين من الآخرة، أي أنَّ سر ضحكهم هو انتقالهم مِمّا وراء الطبيعي إلى الطبيعي، بينما هي في حكايةِ الفلاحين عكس ذلك، فالخطيبُ ملحد، وكان خطابُه يتلمّس الإثباتات المحسوسة، ثم لما نقلَ الفلاحُ الموضوعَ إلى عوالم أخرى بقوله: «وحدوه» أوجد الضحك.

لكن بعد تدبّرٍ أجد أنه ليس معاكسًا لرؤيةِ برغسون، ولا مطابقًا، بل يصنع خَطًا آخرَ، وكأنَّ القضيةَ نفيُ وجودِ الخطيبِ الواحدِ، أو الحجةِ الواحدة، حيث لم يأتِ الضحكُ إلا بعد أن أَمْسَكَ الفَلّاحُ بمكبر الصوت وصار خطيبًا بديلًا للخطيبِ الملحد، ولم يكن ذلك ممكنًا لولا الصمتُ الفاصلُ بين الخطيبين، وكأنَّ ذلك الفلاح أعطى الحضورَ معنىً تداوليًا في الحجاج، وهو أنَّ الحجةَ الصالحةَ في مقامٍ ما، قد لا تصلح في مقامٍ آخر.

إذن الصمتُ الوجودي يَنتج عن صراعِ الطبيعيِّ مع ما وراءه، وربما مِن هُنَا جاءَ المثلُ الشهير: «الضحك بلا سبب، قلة أدب»، إنهم يتأمَّلون الأسبابَ ومكمن الضحك بين الطبيعي، وما وراءه، وسيكون الصمتُ -حينها- سببًا طبيعيًا وليس عدمًا؛ لهذا يُمكِنُ لنا أن نتأمَّلَ الصمتَ بوصفِه درجاتٍ نبحث فيها عن سرِّ كلِّ ضحكةٍ، مهما كانت بسيطة، فقد تَصنَع صمتَها بتخفيفِ حدةِ القلقِ الوجوديّ وسلطَتِه، فهؤلاء المصريون وضعوا حكايةً تقول: إنَّ عبد الناصر أمسكَ بأحدِ مؤلفي النكت، فكانَ كُلّما قالَ له: أأنتَ من ألًّفَ النكتةَ الفلانيَّة؟ يقول: نعم.. حتى ضاقَ ذرعًا به، فقال: كيف يحصل هذا وأنا منتخبٌ بنسبةِ 99 في المئة؟ فأجابه: أما هذه النكتة فَلم أؤلفها.

والسؤال: كيف لهؤلاءِ أن يُؤلفوا نكتًا، وهم في دوامةِ بؤسٍ مستمر؟ ربما هو الصمتُ الوجودي الذي يُسكِت الألمَ لبرهةٍ، فينشِئ خطوطًا موازية لتفكيكِ الاستبداد، وهذا ما يجعل الذاكرة تحتفظ بمسرحية «بانتظار غودو»؛ تلك التي سعت لتجمع الضحك والبكاء في آنٍ واحد، لتصنع مقولتَها: «لا شيءَ يُضحك أكثر من البؤس».

‏‏التفاتة:

‏دغدغةُ (الجسم)، هي صمتٌ مؤقتٌ ليضحكَ (الجسد).