فلو وقَفَ عاشقان -أحدهما في وسطِ نجدٍ، والآخر يطوفُ في مراتعِ صباه في الطائف، أو ذهبَ إلى الباحة في أعالي السراة- لاستطاعا أن يحضنا بعضهما، برؤيةِ جبلِ حضن، الذي يضيء حينها؛ ليُمَكِّنَ العُشَّاق من الاتصالِ والمشاهدةِ، مع الانفصالِ الوجوديّ، كصوفيٍّ يرقص بهجةً مع حبيبه المتعالي.
هذا الجبلُ صديقُ العُشَّاقِ، فهو الفاصلُ والواصلُ بين الحجازِ ونجد. ولا تسلْ عن تاريخِ العشقِ في هذين الإقليمين؟ وكيف يمكن أن تُؤسّسَ نظرياتٌ في العشقِ بينهما، حيث التوافق والتخالف، وحيث الذات والآخر، وحيث النفس والجسم، وحيث العقل والطبيعة، أو الروح والجسد، وحيث الإنّيّة الأولى والإنية الحق. تاريخ عشقٍ بين الجسد والروح، تُفَسِّره رغباتُ العاشقين. وتاريخ الحب والحرب.
(حضن)؛ إنه جبلُ العشقِ ذاتِه، أليسَ العشقُ هو الواضحُ الغامض؟ إن كانَ؛ فذلك جبلُ حضن، إذ حين يقفُ النجديُّ ليرى الحجازيَّ، فإنَّ الجبلَ يتراءَى له كقمرِ العاشقين، أمَّا حينَ يحاول الاتحاد به، فإن الحالَ كفراشةٍ أقبلت لتحضن النارَ، وتتفانى في عشقها، فماتت؛ فهو جبل رَسَت على موانيِه أوديةٌ، وشِعابٌ، ودروبٌ متداخلة متعاقدة؛ كأعماقِ بحر، مات فيها بحار قديم. وربما هي كعنكبوتٍ تنسج البيوت المتوالية المتشابكة ثمَّ تتركها؛ ليتوهَ الواقِعُ في شراكها. إنه جبل يجعل الناظرَ له عاشقا كعشقِ فراشة للنار، كأنَّ جلال الدين الرومي، تمثَّل فلسفتَه الصوفية من جبلِ حضن حين قال: «يا أيها العاشق؛ لستَ أقلَّ من فراشة، ومتى تجتنب الفراشةُ النار». فنردد: ومتى يجتنب المحبُّ الحَضن؟؛ لهذا حين أقف مشدوها أمام الجبل؛ أردد مع الرومي: «فهنا قد يحترق العُشَّاقُ كالعود اليابس، وذلك المعشوق الذي ندر مثله هو الذي يُشعل النار»، وقد قال هذا القول في ديوانه الذي سمَّاه باسم مُلْهِمِه ومحبُوبِه شمس الدين التبريزي؛ فتصير هذه الفلسفة جامعة للاثنين في وقتٍ واحد.وكُلُّ عاشقٍ قرأ كلامَ الروميِّ عن جبلِ الطور، قال: إنَّ هذا -والله- جبل حضن.
حين يُمدَح هذا الجبل فلأنَّه ضَمَّ إكسير الحضارات في صخوره البركانية، وسَحَرَ أعينَ المتعبين بجمال الحياة، والتمسَ الكرم في ميادينه، وتلبّس العلو في وقاره المقدّس، حين ولّدَ رموزًا علوية قبل الأديان. ولأنه غنى للمارّين إلى أحبابهم، ثم لأنه حَمَلَ سِرَّ الهوى، إذ ما زلت أفكر: هل اللطف الذي نزلَ على عمران بن حصين، فتجنَّبَ الفتنةَ في صدرِ الإسلام، كان من وحي جبل حضن؟ إنه يقول لأصحابه: «واللهِ لأن أكونَ بجبل حضن، أَحَبّ إليَّ من أن أرميَ في شيءٍ من هذينِ الصَّفَّينِ بسَهْم». اختار عمرانُ العودةَ إلى الجبلِ الذي أوحى له باللطف، والحكمة، والمحبة، وجمع الصفوف، والائتلاف. ثم إني أفكر: ما الذي جعل جيش الشريف ينهار خاسرًا عند جبل حضن؟ ربما كانَ الجبلُ يعرف أنَّ الجزيرةَ تحتاج إلى اتحادٍ وائتلافٍ، ومحبةٍ، تنتصر للخاطبِ العاشق لها.
ثم أمدحه لأني أرى بِه وجهَ الحبيبِ الحجازيّ، الذي سكنَ الشمسَ فسكن به العشقُ، الشمسُ التي لجأ إليها أبو القاسم الشابّي حين قال: «أرنو إلى الشمس المضيئة هازئا/ بالسحب والأمطار والأنواء» وما كان للشابّي أن يصل إلى ما وصل إليه في هذا الوصف إلا بعد أن عاش فوق القمة الشماء كنسرٍ، كما قال. إذن هو عرف العزّة من هذا الجبل؛ أليس جبلُ حَضن تأوي إليه النسورُ كما أوى أهلُ الكهفِ إلى كهفهم؟ وأليسَ بنو هلال امتلؤوا بالحب -من جبلهم حضن- قبل أن يسكنوا بلاد الشام ومصر، وتونس بلاد أبي القاسم الشابّي؟
إنِّي أحضنُ بِحَضن، جبلَ ابنِ خفاجة حين قالَ: «وأرعن طَمَّاحِ الذؤابة باذخ/يطاول أعنان السماء بغارب».
فإن كانَ ابنُ خفاجة، رأى الجبلَ شيخًا حكيمًا، مرَّ بأزمنةٍ لا تُحصى، فإنَّ جبلَ حضن، حكيمٌ عرفَ جوهرَ الحب، حين عاشَ تاريخَ الأرض كله، واتصلت أسبابه بالسحاب، وقارب مواطن النبوّات؛ فصار وسيطًا بين الأرضِ والسماء. وكأنَّي أرى ابنَ خفاجةَ الأندلسي مارًّا بجبل حضن، فشدا:
عَشيقٌ على ظَهرِ الفلاةِ كأنَّهُ/ مُنادِمُ سِرٍ، أو جَليسُ سَمَاءِ.