يواصل الزميل الكاتب الصحفي صالح الشيحي استثماره لليومي والمألوف في حياتنا ومحاولة الخروج بما يثير الدهشة في نفس القارئ بل وصدمه في بعض الأحيان، على نحو ما يؤكده كتابه "لكن" الصادر عن النادي الأدبي للحدود الشمالية أخيرا متضمنا مجموعة مقالات كتبها في "الوطن" ما بين عامي 2001 و2005.
الكتاب الواقع في 82 صفحة من القطع المتوسط، يضم 75 مقالاً تنوعت اهتماماتها ولغتها بما تميز به الشيحي دوما، ليبدو كملحن أوبرا حسب وصف رئيس تحرير صحيفة الشرق المزمع صدورها قريبا قينان الغامدي في مقدمته التي كتبها محتفيا بالشيحي، واصفا إياه بـ"ملحن أوبرا أو عازف قيثارة أو مغني مقامات يدهش الناس حين يلتقط الكلام من أفواههم فيحيله إلى ما لا يملون من ترديده وهو كلامهم، ويحيرهم حين يأخذ الأفكار من هواجسهم فيصنع منها ما يجعلهم يحتارون كيف أنها عظيمة وهم لا يدركون".
وأضاف "منذ البداية انحاز صالح للبسطاء هموما ولغة ومطالب ولكنه لم يكن مسالما أو مستسلما بل صار سوطهم وصوتهم ولغمهم، والمرآة التي يرى فيها المسؤولون حقيقتهم في أعين وأذهان الصامتين الصابرين الذين ينتظرون بشوق في أي ترهل سينفجر لغمهم صباح غد من الصفحة الأخيرة لصحيفة "الوطن"، مذكرا القارئ أيضا أنه "إذا أردت أن تستمع بهذا الكتاب الذي بين يديك فلا تقرأ الكلمات بمعزل عن مكان تتخيل ولادتها فيه هذا مفتاح الفهم وسر المتعة تخيل نفسك في ليل صفاء وصيف الصحراء لا حدود ولا حواجز هكذا يمكنك سبر أغوار وغمزات وهمزات وهمسات هذا "الشمالي المريد". المقالات حملت عناوين لافتة ومشاغبة مثل "الخراطون" الذي يتناول فيه الكاتب عددا من الشخصيات البسيطة التي تتحدث في الشأن السياسي بطلاقة تحسد عليها، مثل الجار والجدة وسائق التاكسي.. وبكلمات معبرة ومقتضبة يصل بنا الشيحي إلى جوهر لعبة "الخرط" التي تجد نفسك فجأة مشاركا فيها وقد تلبستك شهوة الحكي والخوض في عظيم الأمور دون إلمام كاف.
على هذا المنوال البسيط والمفاجئ، يمضي قلم الشيحي في هذه المقالات، راسما بسلاسة وبأقل عدد من الكلمات صورة غنية بالتفاصيل لأشياء ألفنا التعامل معها حتى غابت عنا فحواها وقيمتها الوجودية في حياتنا، مثلما يفعل في مقال "وسائد" الذي يتناول فيه أصل كلمة "مخدة" مرجعا إياها إلى "الخد" الذي ينام عليها، ثم ينتقل بنا بســلاسته المعهودة إلى الحوار الصامت المعبأ بالخيالات بين النائم ووسادته، وكيف تتسلل إلى هذه اللحظات الليلية مخاوف وجودية مختلفة، تحيلنا إلى حقائق أكبر من تلك اللحظة العابرة المكررة، مثل تذكر أن هناك من "ينام دون رأس" لأنه "رفعها أكثر من اللازم".. وهكذا يتوقف الشيحي عند تلك المألوفات ليغنيها بالتفاصيل التي تعمّق معناها وتزيده غنى.