من المعروف في لغة الاجتماع وعلومه أن الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، يأنس بالحلقات البشرية المحيطة به مهما كان مكانه داخل دائرة الأسرة أو المدرسة أو الصداقة أو العمل أو غيرها من الحلقات الاجتماعية التي تستمد استمراريتها بتداخلها المستند على علاقات بشرية متشابكة يستأنس بها الإنسان ويطمئن بغض النظر عن توافقه أو اختلافه التام أو الجزئي معها أو عنها.
أهمية العلاقات بين البشر هذه نجدها واضحة وضوح الشمس عبر الحضارة البشرية، فلو تعمقنا في التاريخ الاجتماعي للإنسان منذ أن جعل الله الأرض مسكنا له، لوجدنا أن الصداقة كانت حاضرة بقوة في تفاصيل الحياة في المجتمعات البشرية، وقي عقول المفكرين والفلاسفة، حيث نجد أنهم لأهميتها أولوها حيزًا كبيرًا من دراساتهم ونظرياتهم، فالصداقة بمفهوم أرسطو هي عبارة عن مجموعة من المشاعر المتبادلة بين عدد من الأفراد والمبنية على أساس قوي من المشاركة الوجدانية والإحساس بالآخر أو الآخرين «يعتمد هذا على ضيق أو اتساع قطر دائرة الصداقة» والتأثير والتأثر بهم، ولإيمان أرسطو بأهمية الصداقة ربطها بالسعادة الكاملة والتي تحدد العلاقة بين الإنسان وذاته وبينه وبين الناس في المحيط الاجتماعي الذي يعيش فيه، وقد برر أرسطو ربط السعادة بالصداقة لأنها تساعد في حماية الإنسان من الوقوع في الخطأ، كما أنها هي الوجهة النفسية المريحة والمبددة للخوف والقلق والحزن التي يلجأ إليها الإنسان في ضيقه وضعفه.
أما أفلاطون فقد رأى أن الصداقة عبارة عن علاقة محبة متبادلة بين (الأنا) والغير، ويرى أفلاطون أنه من الصعب أن تقوم صداقة بين المتشابه أو المتناقض من البشر، بل يمكن خلق علاقة صداقة بين شخصين متكاملين مختلفين ولكنهما غير متناقضين، وأن أساس الصداقة في الحياة هو التكامل.
في تاريخنا الإسلامي هناك أمثلة عظيمة تحكي عن إيثار الصداقة ودورها البارز في مسيرة عظماء الإسلام، وأولهم نبينا محمد صلوات الله عليه وسلامه، وعلاقة الصداقة السامية التي جمعته برفيقه الوفي أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - هذه العلاقة لو اكتفينا بتفاصيلها كدروس تعلمنا المعنى الحقيقي لمفهوم الصداقة لكفت ووفت.
الصديق في الحياة رذاذ بارد في صيف الحياة الساخن، ودفء حنون في شتاء العمر القارس، ولكن ليكون الصديق صديقًا يجب أن يكون هناك تواصل مباشر وحضور قريب في مختلف النشاطات الاجتماعية ومجالاتها بين الأصدقاء، وربما هذا ما نفتقده في الوقت الراهن حيث أصبحت الصداقات الإلكترونية هي الطاغية لدرجة سحب البساط من صداقات حقيقية كانت هي التي تشكل العلاقات بين البشر. ربما يأتي قائل فيقول المقاهي والبيوت والمطاعم، ومظاهر الحياة الاجتماعية تزخر بالأصدقاء المجتمعين، ولكن هذا غير صحيح فالمجتمعون على طاولات الصداقة أجسادهم فقط هي الحاضرة بحضور باهت أما مشاعرهم فمتعلقة ببرامج التواصل، وتصوير كوب القهوة أو الوجبة الفاخرة، أو أماكن سياحية تجمعنا بالأصدقاء ولكن للتصوير فقط دون أحاديث تلهينا عن أجهزتنا المحمولة ولا مشاعر تغنينا عن أصدقاء العالم الافتراضي.
الصداقة الحقيقية تبنى على العلم التام بالصديق ومن خلاله تبنى الثقة وتتدفق المشاعر.. ويعلو منسوب العطاء والإيثار.. والصداقة الحقيقية أساسها احترام متبادل.. مشاعر صادقة.. احتواء.. لغة جسد.. إصغاء.. أحاديث.. ضحكات متبادلة ودموع تسكب على صدق مشاعر خل وفي.. فالصداقة كل هذا وأكثر مما يعزز المشاركة الاجتماعية بين الأصدقاء، وهذا ما سرقته منا وسائل التواصل لتصبح هواتفنا الذكية هي الصديق الجامد والذي من خلاله أصبحنا نهرب من صادق الأخلاء إلى زيفهم.