حديثي اليوم عن المؤثرين من ذوي السلطة أو التأثير السلبي في المجاميع، ولسوف أنطلق من أرضية مبنية على «السيطرة من خلال المفاهيم» ونظرية «الجِلد في اللعبة»، وقبل أن أبدأ بالربط والتحليل اسمحوا لي أولاً أن أشرح ما أعنيه بالسيطرة من خلال المفاهيم:
عبر التاريخ، أظهر العقل البشري رغبة فطرية في التوسع والإخضاع، سواء من خلال المعارك الجسدية أو غزو الأفكار والمفاهيم؛ في حين أن غزو الأراضي يمكن أن يكون ضاراً، وغالباً ما يؤدي إلى الصراع والمعاناة، يجب علينا أيضاً أن نكون حذرين من الأخطار التي تحدثها غزوات العقول، أين تكمن الخطورة؟
أولى النتائج المباشرة لفرض مفهوم ما هي قمع وجهات النظر البديلة، فعندما تهيمن أيديولوجية معينة، وتدعم بسلطة القوانين، يتم تهميش الآراء المخالفة، ما يؤدي في النهاية إلى إعاقة النمو الفكري وإعاقة البنية الأخلاقية بخاصة إذا كانت هذه الأيديولوجيات تمس الأساس الديني والقيمي للمجتمع، وبالتالي يخلق هذا القمع مواجهات، وربما يتطور الأمر إلى تعديات مثل سلب الحقوق وتعريض حياة أصحاب الرأي الآخر إلى محاكم التفتيش.
ما سبق نلاحظه من خلال ما يحدث في الغرب اليوم، ويعملون على فرضه على ثقافات بقية دول العالم، نجد أن الإخضاع أو السيطرة من خلال المفاهيم لا تتم بسرعة بل على العكس، ببطء شديد ثم تسارع لدرجة باتت تفقد المجتمعات توازنها، حيث تبدأ مثلاً من تغير مفهوم بسيط كالنوع أو الجنس إلى مفهوم الجندر، ثم التوسع بالأخير ليضم أنواعاً يتم تصنيفها، بعد ذلك يبدأ التعريف ثم المطالبة بالاعتراف ثم الفرض ثم الملاحقة! ومثال آخر: مفهوم الحرية الفردية أو الشخصية، يبدأ من تعظيم الذات وأحقية البحث عن المتعة والسعادة، ثم يبدأ تدريجياً حتى يصل إلى فصل الفعل عن المسؤولية!
هذه النقطة الأخيرة هي ما نبه عنها نسيم طالب في كتابه «الجلد في اللعبة»، عندما تغيب المسؤولية عن الفعل أو القرار، أي الفصل ما بين المسؤولية والمخاطرة عند اتخاذ القرار، لا ينتج عادة قرارات سليمة أو في صالح المتلقي سواء كان فردًا أو مجتمعاً.
ما يحدث أن المجتمع يميل إلى مكافأة الأشخاص الذين ليس لديهم مخاطر شخصية في نتائج قراراتهم، مثل واضعي السياسات من رؤساء الإدارات أو الاستشاريين الماليين أو حتى التربويين، وهذا النقص في المساءلة يؤدي غالباً إلى عواقب سلبية، حيث نادراً ما يواجه صانعو القرار تداعيات أفعالهم، فالخبرة والحكمة الحقيقية تأتي من أولئك الذين لديهم «جِلد في اللعبة» أي إنهم يتحملون عواقب أفعالهم أو قراراتهم أو استشارتهم.
والآن نأتي إلى كوارث المؤثرين السلبيين، غالباً ما تمتلك هذه النوعية من المؤثرين الذين استطاعوا أن يجمعوا أعداداً كبيرة من المتابعين عبر وسائل التواصل الاجتماعي تأثيراً بالغاً أعطاهم قوة كبيرة تمكنهم من تشكيل الآراء إضافة إلى الترويج لمختلف المنتجات والخدمات، وتحقيق إيرادات كبيرة، لكن دون أي مسؤولية مصاحبة لهذه السلطة المطلقة التي بين أيديهم، فغالباً ما يؤيد المؤثرون المنتجات دون التجربة الشخصية أو التدقيق بمصداقيتها، أو حتى دفع تكاليفها بما أنها عادة ما تقدم لهم كهدايا وحوافز، بمعنى آخر لا يوجد على الأقل أية مخاطرة مالية من تجربة المنتج وعليه فإن غياب «الجِلد في اللعبة» يؤدي إلى قوة ديناميكية منحرفة ما بين المؤثر والمتابع!
التنظير شيء والوقوف خلف الكلمة شيء آخر، يجب أن يتم تعزيز الشعور بالمسؤولية من خلال مطالبة المؤثرين بالتفاعل والتجربة بصدق وشفافية لكل ما يقدمونه من الأفكار أو المنتجات أو الخدمات التي يؤيدونها وهنا لا أعني فقط في جلسة التصوير أو التسجيل وانتهى الأمر؛ لنرى على أرض الواقع إلى أي مدى سوف تصل بهم الحياة البوهيمية التي يروجون لها!
لمكافحة هذا المد السرطاني بشكل فعال، يمكن للمعلمين وأولياء الأمور استخدام عديد من الإستراتيجيات التي تهدف إلى مواجهة الآثار السلبية وتعزيز التفكير الناقد والوعي الأخلاقي بين جيل الشباب، فمن الضروري تثقيف الأطفال والشباب حول التأثير والتلاعب المحتمل المتضمن في المحتوى الإعلامي؛ إن تعليمهم التحليل والتساؤل عما يستهلكونه سيمكنهم من تحديد الرسائل المضللة أو الضارة، ولنشجع النقاش حول وجهات النظر المعروضة، بذلك يمكنهم تطوير فهم أوسع للعالم واتباع نهج أكثر تمييزاً تجاه الرسائل التي يروج لها المؤثرون، ولنعلمهم تقييم مصداقية المصادر والتشكيك في الدوافع وراء الرسائل التي يواجهونها على الإنترنت، ولنساعدهم أيضاً على فهم عواقب أفعالهم ونشجعهم على اتخاذ خيارات مسؤولة في تفاعلاتهم، ولا ننسى أن نخلق بيئة آمنة بلا أحكام سابقة حيث يمكنهم مناقشة تجاربهم ومخاوفهم بشأن ثقافة المؤثر، والأهم من ذلك كله يجب علينا كتربويين وأولياء الأمور، تجسيد القيم والسلوكيات التي نرغب في غرسها في أبنائنا، عندها يمكننا تمكين جيل الشباب من مقاومة العناصر الجذابة والضارة التي يروج لها السلبيون، كما يمكننا استعادة عقولهم وتوجيههم نحو فهم أكثر استنارة للعالم من حولهم مبني على أسس دينية وأخلاقية متينة.