الحدث الإسرائيلي يغري بمقارنات عربية، والإشارات كثيرة على مواقع التواصل الاجتماعي إلى أن إسرائيل «تتعرّب»، بعدما كانت تقدّم نفسها كـ«كائن غربي» متفوّقًا على محيطه العربي، ودليلها إلى ذلك أنها «الديموقراطية الوحيدة» في المنطقة، ولم يبالِ العرب بهذه «الميزة» ولا سعوا إلى مضاهاتها، بل إن البحث والتجارب تُجمع على أن الحكام، ولا سيما العسكريين، استخدموا «الصراع مع العدو الإسرائيلي» ذريعة للتهرّب من واجبات الإصلاح السياسي وحتى الاقتصادي، ومن احترام حقوق الإنسان.

أكثر ما يفعله الإسرائيليون حاليًا هو نعي «ديموقراطيتهم»، وأكثر المصطلحات ترديدًا في توصيفهم لبنيامين نتنياهو وحلفائه من اليمين الديني المتطرّف هي «الدكتاتورية» و«الاستبداد» وما يعادلها، أما السبب فبات معروفًا، هذه دولة لا دستور لها، ثم أنها دولة نووية، وكان يُعوَّل على القضاء لضبط تغوّل السلطة السياسية، فإذا نُزعت صلاحية القضاء تصبح السلطة متفلّتة وتحكمها أجندات أحزاب متطرّفة، ومن الحجج التي دُفع بها أخيرًا أن الحاصل الآن ينتهك «معاهدة» غير مكتوبة بين الجيش والسلطة، قوامها أن الجيش لا يريد أن يكون تحت إمرة «دكتاتورية ثيوقراطية شمولية»، لذا بدا الانقسام «السياسي» لافتًا في صفوف العسكريين، ويُشار إلى أنه لا يزال في بدايته.

لم يكن سهلاً على صحافي مخضرم مثل ناحوم برنياع أن يكتب بعد إقرار الكنيست إلغاء معيار «المعقولية» لقبول القوانين: «فهمت للمرّة الأولى في حياتي أنني تحت الاحتلال»، لم يكن يتشبّه بأي فلسطيني تحت الاحتلال، داخل إسرائيل أو في الضفة الغربية، بل كان يعبّر عما شعر به لحظة «الانقلاب القضائي»، وبداية فَقد الغطاء القانوني للدولة لتصبح دولته تحت رحمة زمرة عدّد منها ايتمار بن غفير (وزير الأمن)، وبتسلئيل سموتريتش (وزير المال)، وياريف ليفين (وزير العدل)، وسيمحا روتمان (رئيس لجنة الدستور والقانون في الكنيست).


وعلى رغم تأييده لحركة الاحتجاج، إلا أنه حين أراد الإجابة عن السؤال: إلى أين من هنا وكيف التصدّي للخسارة، وكيف «الوقوف في وجه الإعصار الذي يهدد بسحق المعجزة الإسرائيلية»، كما يسمّيها، لم يجد سوى إحدى الكلمات القليلة التي تعلمها بالعربية، وهي: صمود.. وستكون هناك حاجة قصوى للصمود، طالما أن القانون الذي أقرّ لنزع صلاحية المحكمة العليا بإلغاء أي قانون «غير معقول» هو واحد من ثمانية مشاريع ضمن خطة «إصلاح القضاء»، بالأحرى تخريبه وإفساده.

وحين دعا رئيس الدولة إسحق هرتسوغ إلى الهدوء، قبل تجدّد الاحتجاجات، قال إنه «عندما يصل الألم إلى ذروته علينا التزام وضع حدٍّ للنزاع والامتناع عن العنف»، تزامن كلامه مع عطلة ذكرى خراب المعبد (تيشا باف)، وهو يوم حداد على تدمير معبدين يهوديين قديمين في القدس خلال «اقتتال داخلي»، وفقًا للرواية المتداولة، ربما كان في ذهن هرتسوغ أن الوضع الإسرائيلي الحالي بلغ حافة الاقتتال، وإذا به يضيف: «علينا أن نتخيل حياتنا معًا هنا بعد 40 و50 و100 سنة أخرى، وكيف ستؤثر كل خطوة في أطفالنا وأحفادنا وفي الجسور بيننا»، وبذلك عرّج على المخاوف الوجودية الدفينة التي تؤرق اليهود عمومًا، وإذ لم يعفِ «الذين لديهم السلطة ومقابض السلطة في أيديهم» من «المسؤولية الأكبر» فإنه أكد تمايزه عن نتنياهو وحكومته، وهذا ما يوضح سبب دعوته إلى البيت الأبيض.

لم تتدخّل الإدارة الأمريكية، بل لم تستطع التدخّل لوقف مسار تشريعي عارضته بشدّة، وارتكزت إلى أن فئات كثيرة من يهود أمريكا رفضته، لكنها وُجهت بانتقادات غير مسبوقة من وزراء وسياسيين ليكوديين وبنغفيريين وسموترتيشيين بدوا بالغي التنكّر لكل ما قدمته الولايات المتحدة وتقدّمه لإسرائيل، وبعد إقرار التشريع الأول في مسلسل «الإصلاح القضائي» اكتفت واشنطن بإبداء «الأسف»، على رغم أنها تشاطر المحتجّين «خوفهم على الديموقراطية».

واقعيًا، ما يزعج واشنطن أنها بدأت تخسر لتوّها «كذبة» الديموقراطية التي خادعت بها نفسها على مرّ العقود واستخدمتها لإفحام العرب بأن سرّ نجاح إسرائيل وتفوّقها والانحياز الأمريكي الأعمى إليها يكمن في «ديموقراطيتها»، وفيما تتلاشى الآن هذه الذريعة التي كانت دائمة واهية ومكشوفة يبقى الأهم، وهو «الوظيفة» التي تتولّاها إسرائيل في الإستراتيجية الأمريكية، وتتيح لها كل الأسلحة التي تطلبها دعمًا لـ«أمنها»؛ لذلك يجيب نتنياهو، كلّما سئل عن انعكاس تراجع «الديموقراطية» على العلاقة مع أمريكا، بأن إسرائيل تخوض حاليًا مواجهة مع إيران، أي أنها تقوم بوظيفتها.

مع ذلك، ستتأثر العلاقة مع أمريكا بالانقسام الحاد الحاصل في إسرائيل، خصوصًا إذا بقي الديموقراطيون في الإدارة، أما إذا عاد الجمهوريون فسيواجهون اختبار التعايش مع حليف يتوجب الدفاع عن عنصريته الفظة تجاه اليهود والعرب في آن، يشبّه الرئيس السابق لـ«الموساد» تامير باردو الوضع الإسرائيلي بـ«ظروف كلو كلوكس كلان» في أمريكا، ويشرح بأن نتنياهو «تحالف مع أحزاب عنصرية فظيعة ومواقفه ليست بعيدة عنها، فلو أن دولةً ما سنّت مثل القوانين التي نسنّها لقلنا إنها قوانين عنصرية ومعادية للسامية».

وخلص إلى أن نتنياهو «فكّك الجيش والموساد»، إذا كان الأمر بلغ هذا الحدّ فإنه يعني-عمليًا- أن نزع صلاحيات المحكمة العليا لا يكشف الغطاء «القانوني» لكل ممارسات «سلطة الاحتلال» فحسب، بل إنه يزيل ما يسمّيه فلسطينيو 1948 «خط الدفاع الأخير» في قضايا «التمييز الشديد وغير المعقول»، بحسب المحامي حسن جبارين -مركز «عدالة»- الذي يشير إلى أن هذه المحكمة «حمت» بعض الحقوق العربية لكنها «دعمت» عشرات القوانين العنصرية وأهمها «قانون الدولة القومية الصادر في 2018 وينصّ على أن لليهود وحدهم الحق في تقرير المصير».

يتظاهر مئات ألوف الإسرائيليين دفاعًا عن استقلالية القضاء، وعن المحكة العليا، لكنهم لا يدافعون عن «العدالة» بمفهومها المتعارف عليه في أي «ديموقراطية» حقيقية، يريدون «دولة يهودية»، وهذه-تعريفًا- دولة عنصرية ولا ديموقراطية، تقنن حقوق الأقلية العربية إلى الحدّ الأدنى، إن اعترفت بها أصلاً، الأحزاب الدينية واضحة، فاستئثارها المتزايد بالسلطة يعني شيئًا واحدًا.. لا مكان لفلسطيني عربي في الدولة اليهودية، هؤلاء المتظاهرون، وآباؤهم من قبلهم، دعموا «الديموقراطية» التي سوّغت الاستيلاء على أراضي الفلسطينيين بالقوة وشرّعت جرائم الجيش، وارتضوا أن تكون هناك ثلاثة أنواع من القوانين: لليهود الإسرائيليين، لفلسطينيي الـ 48، ولفلسطينيي الأراضي المحتلة. المحكمة العليا هي محور الأزمة الراهنة، عملت وتعمل بقوانين التمييز «اللامعقولة» هذه وتحصّن «القيم» العنصرية التي تأسست عليها؛ لذلك يكتشف الإسرائيليون الآن أنه لم تكن عندهم «ديموقراطية»، وإنما هناك احتلال استعماري تُطوّع القوانين والمحاكم في خدمته.

* ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»