هذا التعميم على البشرية بأنها في غاية السوء، يحمل في طيّاته تزكية كبرى للنفس، فما دام سيد قطب ينال من البشرية بهذا الهجاء المقذع، فهو يشير إلى نفسه على أنه الأعلم، والأهدى سبيلًا من بينها، وهذا الذي جعل أخاه محمد قطب يكتب كتابًا بعنوان (جاهلية القرن العشرين)، ومما قاله فيه: «نحن على أبواب تدخل سافر من تدخلات الإرادة الإلهية الحاسمة، لأنَّ الطاغوت الحاكم في الأرض وصل إلى حد حاسم»، هذا الخطاب يرتكز في مضمونه على تأثير نفسي في السامع، مفاده بأنَّ الأوضاع الكارثية وصلت إلى حد لا رجعة فيه، لإشعار القارئ بعقدة الذنب، فإنه إن لم يقفز ليلتحق بهم فهو في ركاب الهالكين، حتى يسلم نفسه لهم، يتحكمون به كما يشاؤون، وهم المتحدثون باسم (الإرادة الإلهية)!
هذه الطريقة تتكرر مع الأنظمة الخطابية المتطرفة، على اختلاف مادتها، وقد استعملوا هذا الخطاب بعد انحسار سيطرة موجة الإخوان في العالم العربي، فعملوا على إشاعة وجود خطر كامل، جاهلية تجتاح المجتمعات، ليتسربوا إلى المجتمعات مرة أخرى، على أنهم البديل، بأنهم التدخل الإلهي الحاسم، فكانت دعايتهم الموجهة تقول ما مضمونه بأنَّ المجتمعات الإسلامية تجتاحها موجة إلحاد، وسارعوا إلى استقبال الشباب لمواجهة هذا العدو غير المنظور، ولا المرصود بصورة علمية، إنما كانوا يذيعون أخباره ليجمعوا الشباب تحت أيديهم، وما أن خفت تأثير هذه الدعاية، حتى انتقلوا إلى دعاية أخرى تؤكد وجود موجة لا تقل خطورة على المجتمعات وهكذا، حتى وصل بهم الأمر إلى تصفيات حسابات داخلية، لتيار على تيار، حتى تبقى لهم السيطرة على أكبر قدر ممكن من الشباب، ولا يتسربوا إلى غيرهم من التيارات المنافسة.
ولأنهم يعلمون أنه دون إشعار المجتمعات العربية بالقلق، والرعب، فإنَّها ستتعامل مع دعايتهم باستخفاف، فشتان بين القول: هلموا إلى حزب سياسي، وبين انتبهوا بيوتكم تحترق! ففي الدعوة الأولى، يتعامل السامع بعقل ناقد، يأخذ ويرد، ويميز بين دعوة إلى الله، وبين دعوة إلى حزب، له أجندة سياسية يتدثر بخطاب الدعوة فحسب، أما في الثانية فتعطّل ملكات العقل لصالح غريزة البقاء، وفي سبيل المحافظة على نسق الدعاية بوجود هلكة تحيط بالناس، كانوا يضخمون من أيِّ حدث فيجعلونه ظاهرة، وبعبارة شرعية، يجعلون من الصغيرة كبيرة، ومن الكبيرة كفرًا.
وقد جاء في الحديث الذي رواه مسلم: «إذا قال الرَّجُل: هَلَكَ الناس، فهو أَهْلَكُهُم» وهو ينطبق على هذه الجماعات، بدل أن تلتزم ما حذّر منه، فهذا الذي يقول للناس لم يعد فيكم خير، وينتقصهم، ويحقّر من أمرهم، فهو أهلكُ الناس، على خلاف مقصده بمدح نفسه من باب ذمهم، ولذا فإنَّ هذه التيارات التي بالغت في إظهار الخطر في غيرها، ما أن تمكنت في بعض المناطق، حتى عاين الناس فيهم الهلكة بعينها، من قتل ودمار، وفساد وإفساد، وضياع للعلم، وإضرار بالدين والدنيا، وما خبر داعش عن القارئ ببعيد.
ومن أهم أسباب فساد تصورات هذه الجماعات، أنها حين جعلت من شغلها الشاغل ذم المجتمعات عمومًا، سعت إلى تصدير كل أزمة فيها خارجها، فرأت في المجتمعات فسادًا وجاهلية بزعمها، وتضمّن هذا تزكية لأنفسهم بأنهم أعداء لهذه الجاهلية، فلم ينتبهوا إلى ما فيهم فصغّروا من شأن انحرافاتهم وهي كبيرة وأي ذنب أعظم من استحلال الدم الحرام! فمتى ما ارتكب أحدهم جرمًا وهالهم ما فيه، جعلوه من باب الاجتهاد المخطئ في أحسن الأحوال، أو من باب سوء التقدير لا سوء النية، وهكذا جعلوا من اعتذارهم لأنفسهم تسويغًا لأعظم الأعمال، ولو أنهم اعتذروا بعشر هذا للمجتمعات الإسلامية، لما كان لهم أن يعمموا نظرتهم تلك، ولانشغلوا بعيوبهم عن عيوب غيرهم.