بعض القصص الخاصة تزاحم الإنسان، ولا يستطيع أن يهرب منها أو يتجاوزها إلا بعد البوح بها، ولا يضر إن كان البوح عاما؛ فلربما كان وراءه بعض النفع.

باختصار، دخلت وسط زحمة الراغبين في تقبيل الحجر الأسود، في يوم عرفة الأغر، ولمحت شخصا أمامي بالكاد يقاوم الآخرين، فاحتضنته وأخرجته، وسلمته لمن خلفي، ولما خرجنا بحثت عن جوالي، فلم أجده، فقلت سقط وسط الزحام، وفورا بدأ الاستنفار الشخصي، أنا ومن معي في البحث عنه، وسط مظان الفقد، وكخطوة احترازية أولى استخدمت تطبيق التتبع المشهور ـFIND MYـ وظللت مداوما على ترديد: «اللهم رد علي ضالتي بعزتك وسلطانك؛ فإنها من عطائك وفضلك».

هداني التتبع إلى أماكن مختلفة كان جوالي يُذهب به إليها، وفي المقدمة منها سكن لعمال، حاول المشرف عليه مساعدتي، ولم يوفق، ووضعت رسالة لطيفة تظهر لمن يفتحه، مع مكافأة إن رده، واستمر الجوال في الترحال، من مكان إلى مكان، حتى استقر بعد (5) أيام، في مكان واحد، وهنا ذهب وكيلي لمركز الشرطة مبلغا بطريقة رسمية، وطلبوا منه «علبة» الجوال، وما كنت أظن أن الاحتفاظ بها في مستوى أهمية الحفاظ على الجوال، وحمدت ربي أني لم أرمها، وبعد (16) يوما، وبالتتبع ذاته، فوجئت أن الجوال شد الرحال إلى (لاهور)، بباكستان.


خلال المدد السالفة، تدربت على إنعاش كوامن الأمل في نفسي، وعلى عدم التعلق بالجوال المنهوب، وأقسمت ألا أترك من قل تعظيم الحرم في نفسه، وألا أدع من يحاول النيل من الجهود الأمنية لبلادي، وتواصلت مع بعض المعارف هنا وهناك، وبدأنا مرحلة تتبع جديدة، مسافتها 3.655 كيلو متر تقريبا، ومن شارع لشارع، ومن يد ليد، حتى أخبرني الوسيط بعد (6) أيام أن الجوال ظهر وبان، والذي رحله مقيم بمكة، وهذه صورته، وهذا هاتفه، وجوالي سيأتيني، وعرفت أنه حاول تشغيله، وأعجزه الإيقاف المؤقت الذي فعلته، فاستعاد إعداد المصنع له ـFORMATـ، وأضاع كل المعلومات، وهنا أعترف بخطئي الفاحش في عدم شراء مساحة كافية للحفظ المطلوب ـICLOUDـ للتخزين اللازم..

وسط الـ (27) يوما، مرت على ذاكرتي قصيدة المبدع الأمير عبدالرحمن بن مساعد «احترامي للحرامي.. صاحب المجد العصامي..»، أكثر من مرة، وصرت أسلي نفسي بها، وتشجعت وتواصلت مع «غير المحترم»، وتواعدنا أن نلتقي وفي الحرم أيضا، وحددنا موعدا، وقبل الموعد بلحظات استعنت بأحد رجال القوات الخاصة لأمن الحج والعمرة، وأفهمته أني على موعد مع شخصية غير محترمة، وقرأت في عينيه عدم تصديقه لادعائي، فقلت له تابعني وستتعرف على قصة ربما لم تمر عليك سابقا، وبالفعل ظل يتابعني وأنا أتجاذب الحديث مع ذلك الذي سولت له نفسه بما سولت، وناديت رجل الأمن، وطلبت منه أن يعينني في الذهاب إلى مركز شرطة الحرم، وذهبنا جميعا، وبعد وقت غير قصير أخذت أقوالي، وسط ذهول المحققين من نفسي الطويل كما وصفوه، وقيدت الاعترافات، كذا المصادقات، وتحول الجاني للنيابة العامة، ليأخذ العدل مجراه.

اختزلت كثيرا مما حدث خلال القصة العجيبة، راجيا من كل قارئ كريم أن يتسلح بالأمل، وأن يتحمل مسؤوليته في التبليغ عما يتعرض له من مؤذيات، وأن يصم أذنيه عن المثبطين، وأن يطبق عمليا مقولة طيب الذكر الأمير نايف بن عبدالعزيز - رحمه الله -: «المواطن رجل الأمن الأول»، وأن يحافظ على المقدسات بالذب عنها، وأن يواكب جهود هذا الوطن الغالي في تحقيق الأمن والأمان.