تلتقى أنظار الناس جميعًا على الشيء الجميل فتتفق على جماله، ثم يبدأ اختلاف الرأى فيما بينهم حين يبدأون في التفسير والتعليل، فماذا في هذا الشيء أو ذاك قد جعله في أعين الناس جميلا؟ أهو ـفي نهاية التحليل- ما به ينفع الناس في حياتهم الكاملة؟ أم هو صورة بنائه وتكوينه بغض النظر عما ينفع وما لا ينفع؟ أم هو شيء غير هذا وذاك؟، إن لكل فيلسوف عن هذا السؤال جوابه الذي يتفق وفلسفته العامة، وسنختار لك اليوم أفلوطين (Plotinus)، وهو ولد بصعيد مصر سنة 205 ميلادية.

إننا نستطيع أن نلخص رأيه عن الجمال في كلمة واحدة، هي (الروح)، فالشيء جميل بمقدار ما بمادته من روح الإله الخالق الواحد، كان أفلوطين يكتب أو يملى على عجل، لم يدع لتلميذه بور فوریوس (Porphyry) مراجعة الأوراق، فلما توفى أفلوطين، جمع بور فوریوس رسائله وقدم لها بترجمته لحياة أستاذه، وقد قسم تلك الرسائل سنة أقسام، جعل في كل قسم منها تسع رسائل (مجموع الرسائل أربع وخمسون رسالة)، ولذلك سميت بالتاسوعات، وفى إحدى هذه الرسائل ترى رأيه فى الجمال مبسوطًا في سلاسة ووضوح نادرين.. فماذا يقول؟.

الحاستان اللتان تتأثران بالجمال هما حاستا البصر والسمع، على أن الأشياء الجميلة قد تكون جميلة في ذاتها كما هي الحال في الأفعال الفاضلة، وقد تكون جميلة بمشاركتها في مبدأ اسمى، هو المبدأ الذي يخلع عليها جمالها بمقدار مشاركتها فيه، وأن الرواقيين ليزعموا أن هذا المبدأ الذي يكسب الجميل جماله هو تناسب الأجزاء وتناسق الألوان، ولو صح ما يزعمون لما وصفنا بالجمال إلا الأشياء المركبة من جملة عناصر، لأن التناسب والتناسق لا يكونان بالبداهة إلا بين أكثر من شيء واحد، وأما إذا نظرنا إلى عنصر واحد بسيط، أو إلى لون واحد بسيط لما رأينا فيه جمالا، فعندئذ لا نستطيع أن نقول إن لون الذهب جميل، أو أن النغمة الواحدة جميلة، ودع عنك الجمال الذي نراه في مجالات الفكر والأخلاق والروح، لأن هذه كلها مجالات قد لا تكون كائناتها مركبة حتى يجوز لنا أن نقول إن في عناصرها تناسبًا وتناسقًا، وذلك لأن التناسب والتناسق صفتان كميتان يتناولان المقادير العددية في مقاييس الأشياء، إذن فهما لا ينطبقان على الحقائق الروحية ما دامت هذه الحقائق لا عدد فيها ولا قياس.


كلا، فما الجمال في الأشياء الجميلة إلا صفة ندركها، فندرك أن بينها وبين الجانب الروحي فينا شبهًا من حيث الجوهر، وعلى عكس ذلك الشيء الذي نصفه بالقبح، إنما هو شيء يحمل صفة تتنافر مع حقيقة أرواحنا.

فالأشياء الجميلة تذكر الروح فينا بطبيعتها الروحانية، وذلك لأن هذه الأشياء كلها تشترك فى الصورة» المستمدة من عالم الروح، وإذا ما خلا شيء من تلك الصورة كان قبيحًا، وإذا شئت لغة أقرب إلى الأفهام، فقل عن هذه الصورة إنها هي قوة دلالة الشيء على المصدر الإلهي.. أليست «الصورة» تعمل على تنسيق الأجزاء وتوحيدها في كيان واحد، ثم أليس معنى ذلك هو أن (الوحدة التي تجمع الكثرة برباط يوحدها هي سر جمال الشيء، وماذا تكون الوحدة في أعلى مراتبها إلا «الواحد» الذي انبثقت منه شتى الكائنات؟ إذن فإدراك الوحدة في الشيء هو ضرب من الصعود إلى الحقيقة الإلهية الأولى.

1964*

*كاتب مصري «1905 - 1993»