يعاين الكتاب الذي أصدره الأمريكي «نیکولاس کار» التطور الكبير الذي شهده العالم بفضل الحوسبة وآثارُ ذلك في الصحة العقلية للإنسان، مسنتدًا في طرح أفكاره على حجج منطقية وعلمية، لا تخرج سياقاتها عن الواقع، ولا تخلو من نظرة استشرافية لما سيحدث في المستقبل.
التمسك بالأمل
يمثل الكتاب الذي وصل إلى القائمة النهائية لجائزة البوليتزر، نقطة تحوّل في مسارات البحث الأكاديمية التي تتناول المجتمع الرقمي بشكل عام، وشبكة الإنترنت بشكل خاص، إضافة إلى تحقيقه المبيعات عالمية جعلته في قائمة الكتاب الأكثر مبيعًا في دول عدة، علاوة على ترجمته إلى أكثر من عشرين لغة.يقول كار في مقدمة كتابه: «من الصعب مقاومة مغريات التقنية، وقد تبدو منافع السرعة والكفاءة في عصر المعلومة الفورية منافع لا تشوبها شائبة، ولا مجال لمناقشة مسوغاتها. إلا أنني أستمر في التمسك بالأمل بأننا لن نمضي بلطف نحو المستقبل الذي يكتبه لنا مهندسو الحاسب ومطورو برمجيات الحاسوب. حتى وإن لم نحفل بكلمات تحذرنا إلا أننا مدينون لأنفسنا بالتفكير بها، والانتباه لما يمكن أن نخسره، فكم سيكون محزنًا، لا سيما فيما يتعلق بتغذية عقول أبنائنا، لو أننا قبلنا دون تردد فكرة أن «العناصر البشرية» قد ولى زمانها ومن الممكن الاستغناء عنها».
بشر يشبهون الآلات
ينهج الكاتب الأسلوب الغربي في الكتابة الذي يمزج بين التجربة الذاتية والأفكار المطروحة، فيقول: أثارت قصة (إيدكسل) في ذاكرتي ذلك المشهد في نهاية فيلم «2001»، وهو مشهد يطاردني منذ أول مرة شاهدت فيها الفيلم كمراهق بالسبعينيات، في غمرة شبابي في زمن الإلكترونيات التناظرية. وما يجعل هذا المشهد مؤثرًا جدًا وغريبًا جدًا هو ردة الفعل العاطفية للحاسوب تجاه تفكيك عقله؛ يأسه بينما تعتم داراته واحدة تلو الأخرى، ومناشدته الطفولية لرائد الفضاء، يمكنني أن أشعر بذلك. يمكنني أن أشعر بذلك. أنا خائف، وعودته الأخيرة إلى حالة لا يمكن وصفها سوى أنها حالة من البراءة. جيشان عواطف هال يقابله انعدام العواطف الذي اتسمت به شخصيات الفيلم البشرية، الذين يمارسون أعمالهم بكفاءة شبه روبوتية.إذ تبدو أفكارهم وأفعالهم وكأنها مبرمجة، وكأنهم يتبعون خطوات خوارزمية ما. ففي عالم فيلم «2001»، أصبح البشر يشبهون الآلات بشكل كبير لدرجة أن أكثر شخصية بشرية في الفيلم هي في الواقع آلة. وهنا يكمن جوهر نبوءة كوبريك السوداوية: بينما نغدو معتمدين على الحواسيب في فهمنا للعالم، فإن ذكاءنا هو الذي سيصبح سطحيًا كما الذكاء الاصطناعي.
نافذتنا على العالم
يستعيد كار نيكولاس نهايات القرن العشرين حينما جاءت شبكة الإنترنت لتكون آخر وسيلة تثير الخلاف احتدم بشكل أكبر من أي وقت مضى بين المتحمسين لفكرة الشبكة والمشككين بها. وأثار هذا الخلاف عبر عشرات من الكتب والمقالات وآلاف المدوّنات المكتوبة والمسموعة، ومقاطع الفيديو، رؤى وأفكارًا عبّر فيها المتحمسون عن استبشارهم بعصر لإمكانية الوصول إلى المعلومة ومشاركتها، بينما أسف المشككون على بدء عصر ظلام جديد يتسم بالضحالة والنرجسية. وكان النقاش ذا أهمية – إذ أن المحتوى مهم بالفعل - إلا أن هذا النقاش كان مبنيًا على أيدولوجيات وأذواق شخصية وصلت به إلى طريق مسدود. فغدت الآراء متطرّفة، والهجوم مُشخصنًا. إذ يهزأ المتحمسون بالمشككين ويتهمونهم بمناهضة التطوّر التكنولوجي والتشاؤم المفرط، ومن جهة أخرى، يسخر المشككون من المتحمسين وينعتونهم بعديمي الثقافة والمتفائلين أكثر أن من اللازم.إلا أن ما يغيب عن أذهان المتحمسين والمشككين هو أهمية المحتوى الذي تحمله وسيلة ما تقلّ على المدى البعيد عن أهمية الوسيلة ذاتها، وذلك من حيث تأثيرها في طريقة تفكيرنا وسلوكياتنا. حيث تشكل وسيلة الإعلام الرائجة ما نراه وتحدد الكيفية التي نراه بها، وذلك كونها نافذتنا على العالم وعلى أنفسنا.
وفي نهاية المطاف إذا ما استخدمناها بشكل كافٍ، فإنها ستغيّرنا أفرادًا ومجتمعًا.
الانبهار
يستذكر نيكولاس (فهم وسائل الإعلام: امتدادات الإنسان) كتاب مارشال ماكلوهان الذي أصبح موروثًا ثقافيًا تخصص له مقرارات الدراسات الإعلامية في الجامعات، ذاكرًا أن ماكلوهان كتب قائلًا: «لا تحدث آثار التقنية على مستوى الآراء والمفاهيم، بل إنها تغيّر من أنماط الإدراك بنحو مطرد، ودون أي مقاومة». ويضيف «في حين يبالغ ماکلوهان - المحب للاستعراض - في التعبير لإيصال وجهة نظره، إلا أن الفكرة ما تزال قائمة.إذ تمارس وسائل الإعلام سحرها، أو حيلتها، على الجهاز العصبي ذاته. ويمكن أن يُعمينا تركيزنا على محتوى وسيلة ما عن هذه الآثار البالغة. إذ نكون
مستغرقين للغاية في الانبهار أو الانزعاج من محتوى البرنامج، لدرجة أننا لا ننتبه. الجمهور المنصاع يتابع نيكولاس موضحًا: لم يتمكن أحد - ولا حتى ماكلوهان - من التنبؤ بالمأدبة التي وضعتها شبكة الإنترنت أمام أعيننا طبق يليه طبق آخر، كل واحد منها أشهى من الذي يسبقه، دون أي لحظة نلتقط فيها أنفاسنا بين لقمة وأخرى.
ومع تضاؤل أجهزة الحاسوب المرتبطة بالشبكة وصولًا إلى حجم أجهزة آيفون (iPhone) وبلاكبيري (BlackBerry)، أصبحت المأدبة متنقلة ومتاحة في أي زمان وفي أي مكان.
فهي موجودة في منازلنا، ومكاتبنا، وسياراتنا، وفصولنا الدراسية، وحقائبنا وجيوبنا.
وحتى أن الأشخاص المتحفظين تجاه التأثير المتزايد لشبكة الإنترنت نادرًا ما يدعون مخاوفهم تحول بينهم وبين استخدام التقنية والاستمتاع بها.
ويقول ديفيد تومسون (David Thomson) في تعليق له إنّ «الشكوك قد تصبح واهنة في وجه اليقين بالوسيلة الإعلامية». كان تومسون يتحدث وقتها عن السينما، ومدى قدرتها على عكس أحاسيسها ومفاهيمها ليس على شاشة العرض فحسب، بل علينا نحن أيضًا - الجمهور المنصاع المستغرق في المشاهدة، وينطبق تعليقه بشكل أقوى على شبكة الإنترنت، حيث تحطم شاشات الحواسيب - بكل ما فيها من رفاهية وأريحية - شكوكنا.
فشبكة الإنترنت تخدمنا بشدة لدرجة أن الأمر سيبدو فظًا لو أننا لاحظنا أنها أصبحت السيد والخادم في آن معًا.
نيكولاس جي كار
مواليد 1959كاتب أمريكي
يركز عمله على تقاطع التكنولوجيا والثقافة والتجارة.
أستاذًا زائرًا لعلم الاجتماع في كلية ويليامز
كان المحرر التنفيذي لمجلة هارفارد بيزنس ريفيو.
عام 2015، حصل على جائزة نيل بوستمان للإنجاز الوظيفي في النشاط الفكري العام من جمعية علم البيئة الإعلامية.
أطروحاته تمثل حجر الأساس للمناقشات حول تأثيرات التكنولوجيا في أفكارنا وتصوراتنا.
أدت أفكاره إلى اضطراب صناعة تكنولوجيا المعلومات
عام 2005، نشر كار مقالة مثيرة للجدل بعنوان «نهاية حوسبة الشركات» في MIT Sloan Management Review، جادل فيها بأنه في المستقبل ستشتري الشركات تكنولوجيا المعلومات كخدمة من الموردين الخارجيين.