استيقظت هذا الصباح على لازمة انعقدت بلساني، وظللت أكررها وهي: (حرية البكاء...!). فساءلت النفس: «ما مصدر هذه اللفظة، هل هو حلم نسيته؟» ثم وأنا أعد القهوة، وأستنشق بخارها المغلي، تذكرت امرأة كبيرة في السن كانت تردد: (وينك يا نجيب! تشوف الناس تبكي براحتها). أنا متأكد أني في زمان ماض رأيت امرأة تردد هذه العبارة، لكن لا أذكر أين، ومن هي، ومن نجيب هذا؟! هل هذه المرأة كانت في حلم وسط حلم؟ إذ كان محمود درويش يقول (هل يحدث ذلك كثيراً: أن يوقظني من المنام، منام آخر هو تفسير الحلم؟). ولما وضعت القلم جانباً، جاءتني فكرة أن أحكي هذه الجملة أمام المرأة العجوز التي تبيع الشاي بجوار سكني، فربما تكون هي صاحبتها. لعلها تقفز قائلة، (والله، إن هذه الجملة جملتي!) على طريقة شهريار: (والله إن هذه الحكاية حكايتي). لكن لم تفلح محاولتي، حيث ظلت العجوز تنظر إليّ باستنكار.
ذهبت إلى طاولة الكتابة، لأكتب الحلم، إذ شدني تركيب الجملة: «حرية البكاء». وكأنها آخر معاقل الحرية. أو هي بالنقيض: آخر معاقل العبودية. أو هي تجمع النقيضين. عدت إلى جملة العجوز، فوجدتها مرتبطة بحرية الإرادة ارتباطاً متيناً. فإذا لم نكن أحراراً بالبكاء، فماذا نستطيع؟! ويمكن أن نسأل بطريقة اعتيادية عن حرية الإرادة، لكن هذا سؤال مشبع بالكلام الكثير، بينما سؤال البكاء هو الجديد، إذ هو عن نفي الإرادة الحرة، وليس إثباتها، حيث البكاء هو فعل مباشر لتأكيد عدم الإرادة الحرة. أليست هذه مفارقة؟
فماذا يعني ألا تبكي براحتك (إرادتك)؟ من هذا الاستنتاج سنقلب طاولة السؤال ليكون: هل يعني أن من لا يبكي، يحاول أن يبقي بصيص أمل في وجود إرادة حرة؟
هل يعيدنا هذا إلى ما كان التاريخ السلطوي يقوله للذكور: (الرجال لا يبكون)، وهذا يعني أن البكاء للنساء. وأما الرجال فهم من يحارب طواحين هواء حرية الإرادة بالإمساك عن البكاء، آخر المعاقل!
وبكاء النساء يعيدني إلى المرأة ذاتها التي قالت الجملة، وكأنها فرحت باستسلام الرجال لواقع النساء، هذا الواقع الذي يشرح تاريخ النساء، الذي هو بشكل آخر تاريخ السجون، أو أحوال السجون من الداخل. لن نقول «المؤسسات»، بل المعادل الطبيعي لها وهي الجدران. ولأن الجدار حضر، ستحضر معه الشخصية النسائية (ورد) في مسلسل «قلم حمرة» شخصية الكاتبة التي اعتقلت في زنزانة انفرادية. ضاع زمانها ومكانها، ولم تبق إلا ذاتها والجدار، فنحتت على الجدار (أنا ورد)، إذ ربما حين يأتي اليوم الذي تسائل ذاتها: (من أنا؟)
سيجيبها جدار السجن: (أنت ورد). ويحيلنا تحول الجدار -من جماد إلى العارف بأمر الذات المسجونة- إلى مقولة (ريد) إحدى شخصيات فيلم (الخلاص من شاوشانك)، يقول «إن الجدران عجيبة، أكرهها ثم أعتاد عليها، ثم شيئاً فشيئاً أعتمد عليها). هذه المقولة تنكأ جرحاً في معنى الخضوع للمؤسسة. ولا يأتي ذكر المؤسسة إلا ويتبعها ثنائية حرية الإرادة والحتمية، ولكن مع ما طرحته من كون حرية البكاء هي نفي وليس إثباتاً. سيكون السؤال: (لماذا البكاء؟) ربما لشعور امتلاك كل الخيارات المتاحة في الحياة، ولكن لا يستطاع الوصول إليها. أو الشعور بالاستطاعة، ولكن نختبئ منها. من سيعترف بهذا؟ ربما البكاؤون والبكاءات بحرية.
التفاتة:
ثمة بكاء جماعي، عرف تاريخياً بطقوس المناحة، كبكاء الشيعة في طقس زمني موحد. ولهم في هذا سلف من ثقافات أخرى، بعضها مغرق في القدم. ويجمع هذه التقاليد البكاء الديني. ونعلم ما للفظ (الدين) من أثر في مسألة حرية الإرادة. فما نوع الحرية التي يطلبونها بالبكاء الجماعي، هل هي حرية الأسى؟ إذ للأسى حرية، مصداقها البكاء والعويل، لكن في الوقت نفسه: إن في الأسى ما ينفي حرية الإرادة. يقول ابن الخياط: «فلما أبى إلا البكاء لي الأسى/ بكيت فما أبقيت للرسم من رسم»
التفاتة أخرى:
يقول محمود درويش: (صاح، هذي زنازيننا تملأ الأرض من عهد عاد. فأين البياض وأين السواد؟) أما أمين تقي الدين، فيقول (إن الأديب إذا وقفت بقبره/ أمطرته مما بكيت ربيعا). وأما صديق ريد في فيلم (الخلاص من شاوشانك) فيحلم بمكان بلا ذاكرة. وأقول له: هل تستطيع أن تتخيله؟ فيقطع حلمه حرية البكاء في قول درويش: (والحلم يحمل سيفاً، ويقتل شاعره حين يبلغه).