تحتاج الدول إلى هوية قومية جامعة بين مختلف عناصرها، لتشكل بينهم رباطًا ونسيجًا يجعلهم يحددون به أنفسهم بـ(نحن) في مقابل الآخرين، وبتبني هذه الهوية يضحى اعتبار الدولة ممثلة للمعتنقين لها، على أنَّ الهوية القومية لا تتحدد لمرة واحدة فقط، إنما تتطور بطريقة الاحتفاظ بالعديد من عناصرها القديمة التي تراها نافعة لها، وتزيد عليها بما تجد أنه يحقق أكبر قدر ممكن للمشترك الثقافي الجامع، وتبقى هي الأساس الذي يمكن بالبناء عليه الحديث عن ثقافة مخصوصة، أو وجهة نظر قومية، وقد كان في تطعيم تركيا لخطابها القومي بالحديث عن الإسلام مجرد إضافة للخطاب القومي التركي، ولم يكن بديلًا عن هذا الخطاب القومي كما يصوره خطأ من ينافح عن هذا التوجه التركي.

فقد حرصت تركيا على نشر دعايتها التي بثتها بسرعة جماعة الإخوان وفروعهم، سيما وأنّ الإخوان انطلقوا بعد سقوط ما اعتبروه الخلافة التركية، واعتبروا أنَّ مشروعهم يكمنُ في (استئناف) ما سقط، وكان من أهم الدعايات التي ارتكزوا عليها أنَّ تركيا (خلافة) إسلامية، من أيام محمد الفاتح، رغم أنَّ الفاتح لم يعلن نفسه خليفة قط، حتى أنَّ إكساب السلطنة هالة دينية بدأ يظهر في مراحل متأخرة، بصورة واضحة مع سليمان القانوني، وقد صيغت في مرحلة حكم الأتراك مجموعة من الخطابات الدعائية لآل عثمان، منها أنَّ محمدًا الفاتح بشر به النبي صلى الله عليه وسلم بأنه سيفتح القسطنطينية، وأنه نِعم الأمير، رغم أنَّ سياق الحديث لا يساعد على هذا، على خلاف في تصحيحه، وكان عددٌ من علماء السعودية قد نقدوا هذا الاستدلال من قَبل، مثل الشيخ التويجري الذي قال: «ذاك الفتح إنما يكون بعد الملحمة الكبرى، وقبل خروج الدجال بزمن يسير، ويكون فتحها بالتهليل والتكبير لا بكثرة العدد والعدة كما جاء مصرحًا به في أحاديث، ويكون فتحها على أيدي العرب لا على أيدي التركمان».

والذي يهمنا في هذا المقال ليس هو تأكيد أو تفنيد هذا الادعاء التركي، بقدر فهم مدلوله على صعيد تأسيس مخيال قومي متعلق بالهوية التركية، وأثره في المناطق التي ينتشر بها باعتبارها ساحة جيوسياسية تركية، فإنَّ التوجه التركي الحديث سعى إلى نشر ما أُنتج في مرحلة آل عثمان، باعتبار أنهم مشايخ الأحناف العثمانية أي مشايخ السلطنة التركية، مثل ابن عابدين عمدة المتأخرين الأحناف، الذي اعتبر أنَّ الشيخ محمد بن عبدالوهاب من الخوارج، وقال بوجوب طاعة الترك، وهو موقف مشحون بالدلالة على رفض استقلال العرب.


وقد أكدت الثقافة المنتقاة من تلك المرحلة على أعجمية الدولة، وأنَّ شرعيتها دينية مأخوذة من الادعاء بأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم بشر بهذه الدولة، هذا التصور كان مهمًا في تشكيل تبعية المناطق التي نشر فيها هذا الخطاب، فإضافة إلى جماعة الإخوان، كان الأئمة والخطباء الذين درسوا في تركيا ثم عادوا إلى مناطقهم مثل أذربيجان، وما حولها، وهؤلاء وإن كانوا قد لا يدركون الهدف الكبير الذي يخدم مصلحة تركيا إلا أنهم يفعلون ما يحقق تلك المصلحة بتحقيق تبعية شعوبهم للأتراك، مع احتفاظ الأتراك باستقلالهم عن العرب، بل بما في عناصر هويتهم (كتسميتهم دخولهم إلى البلدان العربية بالفتح) على أنهم بديل للعرب.

وفي وجه هذه الهوية القومية التي بقيت تنتشر بين العرب حتى ممن ليسوا من جماعة الإخوان، يبرز سؤال هل انتبه المنظرون والباحثون إلى أهمية ما يحفظ الهوية العربية من هذه التبعية؟ فكثيرون اليوم باسم الانفتاح على الأفكار جميعًا، وإظهار عدم التقيّد بما هو منتشر في بلدهم، بل كثيرًا ما يظهر فيهم الاحتكام إلى قاعدة: خالف تُعرف، شكلّوا مصدر انبعاث كلامي، وقد لا يدرك هؤلاء الذين ينخرطون في هذا النشاط إلى أي درجة يخدمون فيه الهويات القومية المختلفة، وعلى رأسها القومية التركية، التي كلما تعززت كانت على حساب إضعاف الهوية القومية العربية، ويكون نشرها جسرًا في المستقبل لوجود بذور التبعية للأتراك.

إنَّ الهوية القومية التركية ليست مجرد هوية منعزلة، تقول إنها مستقلة عن العرب فحسب، وإنَّ لها تاريخها الخاص، وتصورها الديني الخاص المنفصل عن العرب، وإنما تؤسس لهوية هيمنة، فالغرض من المنح الدراسية جعل إسطنبول قبلة معرفية، لجيش احتياطي من التابعين في المستقبل.