على نحو عملي لا أرى أن أي جماعة دينية يمكن أن تشغل المشهد الاجتماعي كله، ولا أرى أن بوسع خطاب أي جماعة دينية أو غيرها أن يكون مسيطرًا إلى درجة غير محدودة، فهناك على الدوام شيء يقبع بعيدًا عن متناول الجماعات وخطاباتها المسيطرة، بغض النظر عن مدى العمق الذي بلغه خطاب الجماعة في المجتمع، وهذا ما يجعل غير المتوقع ممكنًا.

صحيح أن هناك غاية من الخطاب، فلا شيء يحدث بدون غاية واعية؛ لكن الغاية الواعية وحدها لا تكفي لفهم ما قد يجري في التاريخ، فقد تظهر نتائج مختلفة عن النتائج المرجوة لأسباب تاريخية، وما هو ثمين في هذا المنظور بالنسبة لتحليل الصحوة هو أن ثمة أولية للعلاقات الاجتماعية، ومن المناسب أن ترجع مقاربات خطابها إلى هذه العلاقات لتفهم الوقائع انطلاقًا منه؛ لذلك وكما سأوضح أدناه فأنا أرجح أن الصحوة لم تكن نتيجة للخطاب الديني، بل نتجت من العلاقة بين تركيبات غير خطابية، كالمؤسسات التعليمية والدينية التي سُلمت لها، وبين تركيبات خطابية ليتكون من هذه العلاقة الخطاب الصحوي الذي لا يخدم غرضًا معرفيًا بحتا، بل يهدف إلى معرفة مؤسساتية تولد المراقبة والتحكم والسيطرة لمواجهة التيارات التاريخية والتغيرات الاجتماعية والاقتصادية بين عامي 1953 - 1979 وحملت الأفراد والأحداث والمجتمع إلى غير ما يشتهي الديني وسواه. وهي تيارات وتغيرات من المفيد أن يستوعبها تحليل نشوء الصحوة التي تشكلت أولا في الحياة اليومية الاجتماعية، وهناك مبررات لا بأس بها لوجود الصحوة قبل خطابها، يمكن أن تتضح من تحليل العلاقة بين خطاب ومؤسسة، فأهم ما قدمه فوكو لتحليل السلطة وعلاقتها بالمعرفة ليس تحليل خطاب السلطة بل تكمن قيمة ما قدمه في أنه ربط الخطاب بمؤسسة، وفكرة الربط هذه لا يضعها الباحثون السعوديون في بالهم حين يتحدثون عن الصحوة.

لم تنشء الصحوة السعودية مؤسسات لكي تنتج خطابها، والمؤسسات التربوية والتعليمية والدينية التي استخدمتها مؤسسات لم تنشئها الصحوة، ومن المهم في هذا السياق هو أن هناك فعلا علاقة بين خطاب الصحوة الديني وبين مؤسسات، لكنها المؤسسات التي لم تنشئها هي أصلا ولم تملكها، وأقل ما يمكن أن يقال في المقام أن تلك المؤسسات راضية عن ذلك، فضلا عن ذلك فممارسات الصحويين الأعلام وجمهور الصحوة لم تكن لتوجد من دون خطاب يحدد ممارساتهم ويوضحها، ويقصي منها ما لا يتفق معها، ويدعم من الممارسات ما يتفق معها، وهذا يقتضي أولا الخطاب ولا يقتضي الصحوة، والمعنى هو أن هناك أولا تركيبًا خطابيًا له علاقة (وكلمة علاقة هنا مهمة) بتركيب غير خطابي وهو المؤسسات التي سُلّمت إلى الصحويين، وقد نتج عن هذه العلاقة خطاب الصحوة.


إن طرح نشأة الصحوة بأثر من الخطاب الديني لا يفسرها إلا بكونها جماعة دينية، بينما هي أصلا أكثر من مجرد جماعة دينية، وحين أرى أن الصحوة لم تنشأ من الخطاب الديني فلا أريد أن أقول إن الصحوة نشأت صدفة، بل أريد أن أنبه إلى أن الواقع لا يتكون من أحداث جاهزة ومنجزة، بل يتكون من علاقات اجتماعية، فما يبدو ثابتًا يتغير باستمرار، فعمليات التحول التي بدأت على مجتمعنا من مجتمع تقليدي إلى مجتمع حديث عمليات قاسية ومؤلمة، والصحوة تعبر -كما أرى- عن الاضطرابات التي ولدها اختلال توازن المجتمع، وعبرها جرى التخلص من التوتر الاجتماعي بتحويله إلى عداء أيديولوجي لكل حداثة، ومشروع كراهية وعداء لكل تحديث؛ لذلك فلا أرى أي قوى تحكمت في الصحوة، ولم ألمح عقلا دبرها، وما أراه هو أن هذه التحولات أبعدت مجتمعنا عن ذاته، وقد نتج عن هذه العمليات، وتشكلت منها ممارسات اجتماعية هي التي عبر عنها المجتمع بالصحوة، والمعنى أن هناك مجموعة من الاتجاهات الاجتماعية والثقافية حددت الصحوة باعتبارها نموذجًا لإنتاج هذه الاتجاهات التي نظمت الصحوة ووزعتها، واستهلكتها إن صح هذا الوصف.

لم تكن الصحوة على وفاق مع المجتمع أثناء عمليات تحوله، ولكي نفهم عدم الوفاق هذا؛ سنتصرف في فكرة إدوارد سعيد عن تحول بعض الأفراد من أن يكون منتميًا (البنوة) إلى أن يكون منتسبًا (التبني)، ومعنى الانتماء (البنوة) أن ينتمي الفرد إلى ثقافته المحلية التي تنتقل من جيل إلى آخر، وهي عادة ثقافة لا يوجد فيها أي إشكالات إلا عند مستوى محدود جدًا لكن أثناء عمليات التحول يفشل مجموعة من الأفراد في الانتماء إلى ثقافتهم الاجتماعية المحلية، عندئذ يحاولون أن يبحثوا عن وضع تعويضي، وعادة ما يجد هؤلاء العوض في نوع معين من السلوك الديني، فالإيديولوجيا تكون هامشية حين تكون قواعد الحياة راسخة، لكن في مرحلة بين بين تزعزع تلك الحياة، فتوجه الأبعاد العاطفية والفكرية بطريقة غير عقلانية ولا متبصّرة.

ومن وجهة بيولوجيا السلوك الديني، ومن أجل أن نفهم جوانب غير سلوكية من الخبرة الدينية، فهناك علاقة بين المعرفة وبين الانفعال ينتج عنها سلوكًا دينيًا (نظرية الشحن الانفعالي) والمعنى أن المعتقدات الدينية ترتبط بكيفية التعامل مع القلق، وفقدان اليقين والحيرة، وأنها تحدد الحاجات الإنسانية داخليَا، وتحركها لتصل إلى المعنى واليقين، والسكينة والسلام الداخلي، وأن السلوك الديني يتأثر باختلالات النظام الانفعالي، وقد يؤدي ذلك بالفرد إلى صعوبة في التأثر وفي التواصل، ويتجلى هذا في اضطرابين من اضطرابات الشخصية، وهما «اضطراب الشخصية المضادة للمجتمع» و«اضطراب الشخصية الحدّية»، وحين أتحدث هنا.

لقد وجدت جماعة الصحوة مصاعب في الانتماء إلى ثقافة مجتمعاتهم المحلية، وتعرض جمهورها إلى الضغط النفسي من الوضع الذي يعيشونه أثناء عمليات تحول المجتمع؛ لذلك بحثوا طرائق جديدة تعوض الانتماء إلى مجتمعاتهم المحلية، لأنهم رأوا في ثقافتها انحطاطًا دينيًا وثقافيًا.

والخلاصة هي أنهم لم ينتموا إلى الثقافة الاجتماعية الحديثة التي أعطت الآخرين الراحة والأمان، بل انتسبوا إلى الأيديولوجيا (بمعنى يخلو من الحكم)، فوظيفة الأيديولوجيا، كما يقول غيرتز، هي أن تجعل من الممكن قيام سياسة ذاتية مستقلة عن طريق تأمين المفهومات التي تجعل منها شيئًا ذا مغزى، لقد انصرفت هذه الجماعة عن ثقافة مجتمعاتها المحلية إلى الأيديولوجيا لأن الأيديولوجيا بوصفها نظامًا ثقافيًا تستجيب للتوتر الثقافي والاجتماعي والنفسي، ويكمن وراءها العجز عن استيعاب النماذج القابلة للاستخدام، وهي إسقاطات لمخاوف غير معترف بها، أو أقنعه لبواعث خفية، وتعبير تواصلي لتمتين التضامن الاجتماعي، وهي خرائط لواقع اجتماعي تعتوره المشكلات.

وقد انتسبوا إلى رؤية للكون والحياة أكبر من أنفسهم، وحملوا قيمها، وتحولوا إلى أداة ساحقة لكل مختلف عنهم، يواجهون كل مختلف كما لو أنهم في حرب، يشعرون بالعداوة لكل ما يحيط بهم، ويدربون أنفسهم على ذلك، ويعدونها وفق هذا الشعور، لقد وجدوا النموذج الذي تحدث عنه آشيا برلين؛ أي النموذج الكامل في ذاته الذي تبحث عنه أعمق الرغبات البشرية لكي ينظم التجارب الماضية والحاضرة والمستقبلية والفعلية والممكنة، هذا النموذج دائمًا ما يعبر بأنه في يوم من الأيام كان.. في يوم من الأيام كان المسلمون حريصين على دينهم، في يوم من الأيام كان للإسلام حضارة أنارت العالم وأخرجته من الظلام، في يوم من الأيام سيعود الإسلام كما كان.