اتصلت بلويس ماسينيون اتصال التتلمذ والطلب، سنة 1947. ثم ما فتئت فيما بعد أتردد عليه في بيته بشارع م. لو برانس من حين إلى حين كلما سمحت الظروف وسنحت فرص الأسفار، وكان الشيخ الأستاذ يدهش الطلبة بسرعة الخاطر ووثوبه من ميدان إلى ميدان دون تخلص يلمس؛ لقد كان إمام الاستطراد. فكانت دروسه تكتسي صبغة إشارات خاطفة، وعبارات غامضة، ولمحات سريعة؛ كانت دروسه نسيجا من وميض الحدس المتدفق. فكأنه يدرك حقائق الأشياء دون ستار ويريد منك أن تقتفي خطاه، وكثيرا ما قصرت خطى القوم عن خطاه، ولعل الأليق بمن لم يرزق إلهامه ومواهبه ألا يتوغل طويلا في سبيله فيضل من حيث يريد أن يهتدي. فليس كل من لبس الصوف صوفيا.
ذلك أن الشيخ ماسينيون كان إماما فذا في صناعته. أحب الإسلام. وأخلص للكاثوليكية وأدرك سر التنزيل، فارتاح يقينه بأسرار الإنجيل؛ فهو كما قيل أكثر المسيحيين إسلاما بحث طول حياته، عن همزة الصلة بين الدينين، فوجدها في إبراهيم الخليل؛ وأراد أن يؤلف بين أهل الملتين فدعاهم إلى «الحج معا» إلى صالحين يقدسهم الإسلام كما تقدسهم المسيحية، إلى أهل الكهف الذين بقصتهم نطق التنزيل. فلقد خصهم ل. ماسينيون ببحث عميق طويل الذيل، ولقد «حج» إلى كهفهم شرقا وغربا، في قسيون بسوريا، ومقاطعة بريطانية بفرنسا، إذ التقديس الشعبي والأخبار الكثيرة وردت بذكر الكهف وأهله في مناطق متعددة من بلاد الله.
وإنك لتجد هذه الروح، روح الحج والطلب في كامل ما نشر، بدأ ل. ماسينيون حياته العلمية ببحث تاريخي محض، خصصه للوزان الزياتي، المغربي المنشأ، الإيطالي المستقر؛ المسلم في أوله، المسيحي في خاتمته.
حتى أن اسمه الذي به الآن يعرف هو جان ليون الإفريقي. لقد درس شيخنا مؤلفه في صفة المغرب درسا لم يبل رغم مر الزمان حتى أن ابولار، عندما نشر الكتاب سنة 1956 أثنى على هذا الدرس الذي بقي وثيقة أساسية جزيل الثناء. ولقد بقيت هذه الروح التاريخية تخالج ل. ماسينيون إلى آخر أيام حياته. فنحن ندين له ببحوث أساسية عن بغداد، والكوفة والبصرة، ومقابر القاهرة، والحياة الاقتصادية بالعراق في القرن الثالث، خاصة عن جهابذة التاج من الإسرائيليين ومراكز بنوكهم بمصر وقرطبة.
ولم يشتغل ل. ماسينيون بماضي المسلمين فحسب بل انكب أيضا على الحاضر، وذلك من فجر اشتغاله بالبحث. ففي أيام ليوتي بالمغرب صنف مؤلفه في الصناعات التقليدية، وما زال ذلك المؤلف يدهشنا اليوم بغزارة المعلومات وتنوعها. ولقد صنف تقويم العالم الإسلامي واعتنى باللغة، لا في المجامع فحسب، بل أيضا في البحوث العديدة.
غير أن الشيخ ل. ماسينيون قبل كل شيء، باحث عبقري في تاريخ الإسلام، وكل ما كتب في غير هذا الموضوع، إنما هو في الحقيقة حواش على متن واحد يريد أن ينيره من جميع النواحي.
1963*
* * باحث ومؤرخ تونسي «1921 - 2017»