مسارات الدماغ
هكذا تتساءل الباحثة في علم النفس «آنا ليمبيكي» خلال تقديمها كتابها «أمة الدوبامين»، لافتة إلى أن العلماء يعولون على هرمون «الدوبامين»، بوصفه عملة عالمية لقياس ميول الفرد، وقابليته لإدمان أي خبرة، فكلما زاد إنتاج الدوبامين في مسار المكافآت في الدماغ كانت التجربة أكثر إدمانا.ويمكن القول: إن اكتشاف الدوبامين في مسارات الدماغ يعد أحد أكثر الاكتشافات المؤثرة والمهمة في مجال علم الأعصاب بالقرن الماضي، خصوصا أن الدماغ يعالج اللذة والألم، بالإضافة إلى أن كلا منهما يعمل بشكل معاكس، لتحقيق التوازن.
جربنا جميعا تلك اللحظة التي نتوق فيها إلى قطعة ثانية من الشوكولاتة، أو الرغبة في المحافظة على استمرارية المتعة التي حققناها من قراءة كتاب جيد، أو مشاهدة فيلم ممتع أو لعبة فيديو حماسية.. تلك اللحظات التي نشعر فيها بالخواء بعد انتهاء السعادة المحققة فهي تمثّل لحظة توازن اللذة في الدماغ التي عادة ما تميل إلى الألم، محدثة ذلك الخواء والفراغ الذي يدعونا إلى الحصول على المزيد من اللذة.
الخيارات الاستهلاكية
تناول الكتاب - بحسب مترجمته للعربية علياء العمري - قضية محورية وإشكالية، ألا وهي الاستهلاك القهري المفرط المسبب للإدمان بأنواعه، سواء الإدمان على تعاطي المخدرات أو الإدمان على سلوكيات وتصرفات قد لا نشعر بها.ورأت «العمري» أن آنا ليمبيكي استطاعت أن تشرح هذه الإشكالية بصورة مركزة، تجمع فيها بين علم الأعصاب الحديث والطب النفسي في إطار سردي، من خلال طرحها قصصا واقعية لبعض مرضاها، بالإضافة إلى استخدامها استعارات توضيحية تجعل القارئ قادرا على فهم الكيفية التي يعمل بها نظامنا العصبي لاستقبال الخيارات الاستهلاكية التي لا تنتهي.
قدم الكتاب -طبقا لـ«العمري» أيضا- منهجا علاجيا متكاملا قائما على مجاهدة النفس، لتحقيق التوازن، والتخلص من الاستهلاك القهري المفرط بطرق متنوعة، سواء بالتدخل العلاجي أو بالأسطورة والرمز أو بالمعتقدات الدينية، مما يجعل محتوى الكتاب قابلا للتطبيق، سواء من قِبل المعالجين أو الأطباء أو الدارسين، أو المهتمين بالتخلص من أي سلوك إدماني.
إصدارات متطرفة
يستهدف الكتاب فك برمجة علم أعصاب المكافآت والمنح الدماغية التي تمكننا من إيجاد التوازن بين اللذة والألم، إلا أن علم الأعصاب وحده لا يكفي، فنحن محتاجون إلى التجارب الإنسانية الحية والواقعية جدا.. تلك التي نستطيع أن نتعلم منها كيفية التغلب على الاستهلاك القهري المفرط، ولن يتسنى لنا ذلك إلا بواسطة أكثر الأشخاص عرضةً له، ومعاناةً منه، وهم الأشخاص المدمنون.الكتاب يرتكز على قصص حقيقية لبعض المرضى الذين وقعوا فريسة للإدمان، إلا أنهم تمكنوا من الخروج من دائرته.
تقول المؤلفة: لقد سمحوا لي أن أقدم قصصهم، لتستفيدوا من حكمتهم كما استفدت أنا. من المحتمل أن تجدوا بعض هذه القصص صادمة، ولكن بالنسبة لي كطبيبة نفسية أعتبرها إصدارات متطرفة لما نحن قادرون على فعله ولم نفعله. وأستشهد هنا بمقولة الفيلسوف الثيولوجي كينت دانينغتون «إن الأشخاص الذين يعانون الإدمان الشديد يمكن عدهم في مصاف الأنبياء المعاصرين الذين نتجاهلهم إلى يوم فنائنا، لأنهم قادرون على جعلنا ندرك من نكون؟ وما هي حقيقتنا؟».
علاوة على ذلك، فإن التكنولوجيا نفسها تسبب الإدمان بأضوائها الوامضة، وضجيجها الموسيقي، فهي لا قاع لها ولا يمكن التنبؤ بنهايتها، مقدمة الوعد بأن المزيد من المشاركة والارتباط بها، يقود إلى الحصول على المزيد من المكافآت التي لا تنتهي.
أسراب الطيور
تسرد المؤلفة قدرا من قصص مرضاها ، منطلقة من أنه يمكن القول: إن ظهور القارئ الإلكتروني ساعد على تقدمي الشخصي من الروايات الرومانسية الرديئة لمصاصي الدماء إلى ما يمكن اعتباره موادا إباحية المسموح بها اجتماعياً للسيدات.لقد أصبح فعل الاستهلاك مخدراً، لقد وقع مريضي "تشي» - وهو مهاجر فيتنامي - في دائرة إدمان البحث عن سلع والشراء الإلكتروني، تبدأ النشوة عند اتخاذه قرار الشراء وماذا يشتري؟ ثم تستمر بترقب موعد تسليم الشحنة، وتبلغ أوج ذروتها في اللحظة التي يتم فيها فتح طرد المشتريات.
يشجع الإنترنت على الاستهلاك القهري المفرط ليس فقط من خلال زيادة الإمكانية في الوصول إلى المخدرات وتوفير العقاقير القديمة والجديدة، ولكن أيضًا من خلال اقتراح سلوكيات ربما لم تحدث لنا على الإطلاق أو لم نسمع بها من قبل لا تنتشر مقاطع الفيديو بسرعة. ولكنها حرفيا معدية تنتشر كالوباء، ومن هنا جاء انتشار ما يطلق عليه "ميم ".
يُعد البشر حيوانات اجتماعية عندما نرى الآخرين يتصرفون بطريقة معينة عبر الإنترنت، تبدو هذه السلوكيات «طبيعية»؛ لأن الآخرين يفعلونها.
«تويتر» هو اسم مناسب لمنصة رسائل وسائل التواصل الاجتماعي التي يفضلها النقاد والرؤساء على حد سواء. نحن مثل أسراب الطيور. لم يكد أحدنا يرفع جناحًا أثناء الطيران حتى رتفع السرب بأكمله في الهواء.
أفرطنا في حماية الأطفال
إن جهودنا لإبعاد أطفالنا عن التجارب النفسية المزعجة لا تتم في المنزل فحسب، بل في المدرسة أيضًا. على مستوى المدرسة الابتدائية، تلقى كل طفل ما يعادل جائزة "نجمة الأسبوع»، ليس لأي إنجاز معين ولكن بترتيب أبجدي. يتم تعليم كل طفل أن يكون حذراً متيقظاً لسلوكيات المتنمرين حتى يكونوا متعاطفين مع الضحايا دعاة حق بدلاً من أن يكونوا مجرد مشاهدين.على المستوى الجامعي، يتحدث أعضاء هيئة التدريس والطلاب عن المحفزات والمساحات الآمنة. لقد طورت إرشادات علم نفس النمو والتعاطف النظام التعليمي والتنشئة الاجتماعية، إذ يُعد تطوراً إيجابيا للحياة الحديثة
يجب أن نعترف بقيمة كل شخص بعيداً عما يقدمه من إنجازات، وأن نوقف الوحشية الجسدية والعاطفية في فناء المدرسة وفي كل مكان آخر، وإنشاء مساحات آمنة للتفكير والتعلم والمناقشة. لكني أشعر بالقلق لأننا أفرطنا في حماية الأطفال، الإفراط في التعقيم والنظافة، لئلا يمرضوا، والتعامل مع مرحلة الطفولة كأنها مرحلة مرضية أكثر من كونها مرحلة ،نمائية.
علياء عبدالله العُمري
*دكتوراه في تخصص علم الاجتماع من جامعة الملك عبدالعزيز.*باحثة متخصصة فى تحليل الخطاب.
*مهتمة بعلم اجتماع الحياة اليومية.
*حاصلة على جائزة التميز العلمي من منتدى «باحثون» الأول عن أفضل رسالة دكتوراه مقدمة في 2018 من جامعة الملك عبدالعزيز.
*رسالتها للدكتوراه حملت عنوان «الرواية السعودية كمصدر لمقاربة وفهم المجتمع السعودي».
*لها عدد من الدراسات المنشورة في مجلات متخصصة وكتاب مترجم للفرنسية عن دار Harmattan.
آنا ليمبكي
*أستاذة الطب النفسي والإدمان في كلية الطب بجامعة ستانفورد.*رئيسة عيادة ستانفورد للتشخيص المزدوج لطب الإدمان.
*حصلت على العديد من الجوائز لأبحاثها المتميزة في الأمراض العقلية وإسهاماتها في التدريس والابتكار الإكلينيكي في العلاج.
*نشرت أكثر من مائة ورقة بحثية منشورة في دوريات علمية مثل مجلة نيو إنغلاند الطبية ومجلة الجمعية الطبية الأمريكية.
* عضو في العديد من المنظمات التي تعنى بمكافحة الإدمان .
* أدلت بشهادتها أمام لجان في مجلس الشيوخ بالولايات المتحدة الأمريكية فيما يختص بقضايا الإدمان.
* من مؤلفاتها كتاب حول وباء الأدوية الموصوفة باسم «تاجر المخدرات الطبيب».