تقدم الإحصاءات الدورية لسوق العمل بيانات رسمية عن واقع سوق العمل وإشكالاته القائمة، بما توضحه من أعداد ونسب لجميع العاملين في سوق العمل، والذي يشمل القطاعين الحكومي والخاص، وتُظهر الإحصاءات المتتابعة جوانب التقدم والإخفاق في أداء السوق، بما يتضمن تفاصيل هيكله من الموارد البشرية المشتغلة في السوق، والتي تعكس مدى قوة أو ضعف سياسات العمل في ضبط الأداء وتصحيحه، بما يخدم أهدافنا التنموية ويحقق رؤيتنا الإستراتيجية التي جعلت التوطين والتوظيف من أهم مستهدفاتها الوطنية، لأهميتهما في التنمية الاجتماعية والاقتصادية المستدامة.

وتشير أحدث النشرات الإحصائية لسوق العمل للربع الأول من العام 2023 بأن معدل البطالة بين السعوديين قد ارتفع من 8.0% في الربع الأخير من العام 2022 إلى 8.5% في الربع الأول من العام 2023، وذلك كنتيجة طبيعية لانخفاض معدل المشتغلين منهم من 48.3% إلى 48.0% بالمقارنة ما بين الربعين الأخيرين، رغم ارتفاع معدل المشتغلين من غير السعوديين من 73.3% إلى 73.9% للفترة نفسها! وذلك رغم ارتفاع معدل المشتغلين من السكان من 58.5% إلى 58.6% والذي كان لصالح غير السعوديين.

على الرغم من الاهتمام بتوجيه التوظيف نحو القطاع الخاص واستهدافه، باعتباره القطاع المسؤول عن الإنتاج وتحريك السوق والتنمية المصاحبة، إلا أن الإحصاءات تشير إلى أنه مازال السعوديون يشكلون 91.23% من جملة المشتغلين في القطاع الحكومي والبالغ عددهم الإجمالي 1.793.711 مليون مشتغل، بينما تنخفض نسبتهم في القطاع الخاص الواعد والمستهدف إلى 22.50% من جملة المشتغلين في القطاع الخاص والبالغ عددهم 9.928.200 ملايين مشتغل، في حين يستأثر غير السعودي بنسبة 77.49% من المسجلين في القطاع الخاص، وذلك لا يشمل العمالة المنزلية التي تشكل وحدها نسبة 23.70% -من غير المواطنين- المشتغلين في الوطن، والذين يبلغ عددهم الإجمالي 15.363.372 مليون مشتغل.


وبناء على الإحصاءات المنشورة فإن نسبة المسجلين في المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية والخدمة المدنية من غير المواطنين يشكلون نحو 67% (66.98%) من المشتغلين في سوق العمل الوطني! بينما لا تتجاوز نسبة المشتغلين من المواطنين في كلا القطاعين نسبة 33% من جملة المشتغلين في السوق!

وعليه فالتساؤلات التي تطرح نفسها: هل أثمرت برامج التوظيف المعروفة في زيادة نسبة توظيف المواطن والتوطين؟! وهل الوظائف التي يتحصل عليها المواطن خلالها، هي من الوظائف النوعية المناسبة لمؤهلاته أم أنها وظائف هامشية وبمستويات بسيطة ورواتب محدودة؟ وماذا قدمت شركات التوظيف الشائعة من إضافات محمودة لصالح التوظيف المستدام والآمن للمواطن؟ أم أن وظائفها مؤقتة وهامشية كذلك ولا تناسب المؤهلات العلمية ومتطلبات التوطين؟!

من جهة أخرى تعُجْ وسائل التواصل الاجتماعي باختلاف نشاطاتها حتى التوظيفية منها (اللكند إن) بمئات الفرص الوظيفية المطروحة للتوظيف يومياً، ويتكرر الترويج لها، ومع ذلك قلما أو يندر التوظيف عبرها؟!

إذن ما هي الإشكالية البارزة، وما هو التحدي الذي يمكن استخلاصه من نتائج الإحصاءات الدورية لسوق العمل، واستمرار ركود وانخفاض نسبة المشتغلين من المواطنين سواء بالتوطين أو التوظيف في الفرص المتاحة رغم تضخمها وتنوعها؟!

لا شك أن هناك أيدي خفية وسيطرة مبطنة تهيمن على سُبل توظيف المواطن وتحكم مفاصل الأعمال في القطاع الخاص وآلية التوظيف المتبعة فيه، بما يحقق استبعاد الكفاءات الوطنية واستقطاب الراغبين في العمل من غير المواطنين، رغم منافسة المواطن لهم واستحقاقه في التوظيف والتوطين في إطار الإستراتيجيات التنموية المستهدفة! وكما يتضح أنه ليس هناك صعوبة في رصد ذلك أو تعقيد تكتيكي في ضبط اللوبيات المسيطرة على عملية التوظيف والتوطين، وذلك يظهر عند مراجعة هيكل الموارد البشرية المكونة لأي قطاع أو شركة، سنجد أن هناك هيمنة لجنسية معينة تتوافق مع جنسية مدير التوظيف أو المسؤول المؤثر في ذلك، مع وجود تشكيلة محدودة من جنسيات مختلفة للتمويه مع قلة من المواطنين.

تتدفق مخرجات الجامعات والكليات التقنية والفنية وغيرها من مخرجات الابتعاث بصفة مستمرة لتقدم للسوق متطلباته وحاجاته المتنوعة من المؤهلات التي تمَكَّنْ منها المواطن، بفضل جهود وطنية بُذلت لتطوير المخرجات والارتقاء بنوعياتها ومجالاتها بما يتوافق مع حاجة سوق العمل بفرصه المتنوعة، ورغم ذلك هناك من يتلاعب بمقدراتنا الوطنية ليُضعف من أثرها الإيجابي المتوقع على التنمية الاجتماعية والاقتصادية المأمولة كمردود لجهود وطنية حثيثة نحو الاستدامة التنموية في جميع المجالات الوطنية والبيئات المستهدفة لتحقيق رؤية 2030.

تطوير جهود وزارة الموارد البشرية وسياساتها يشكل محور الارتكاز والقطاع الفعال الذي يمكنه تصحيح واقع سوق العمل ومعالجة تحدياته الواضحة التي تختل فيها كفة مساهمة المواطن ونسبة اشتغاله في سوق العمل الوطني، وقد أكدت النتائج الإحصائية ضعف تأثير برامج التوظيف المتبعة بل وغير ملحوظة في إطار التحديات والعقبات التي تحول دون توظيف المواطنين رغم تميز مؤهلاتهم بل وندرتها أحياناً.

هناك حاجة ملحة لتحديث سياسات العمل وتطوير أنظمته بما يخدم الحاجات الوطنية ويسهم في تحقيق المستهدفات ويعالج التحديات، ولعل مراجعة أنظمة الاستقدام ومدة الإقامة للخبرات الوافدة ولجميع الوافدين أصبح أمراً مُلحاً، كما أن تصحيح وضبط لوائح التوظيف والتدريب لصالح المواطن أصبح أمراً مفروغاً منه في إطار المسؤولية الوطنية المناطة للقطاع، أما قضية التوطين فتلك حالة تستدعي الوقوف عندها ومتابعة أسباب عدم نجاحها وضعف تحقيقها كما هو مأمول، وذلك تؤكده ليس فقط الإحصاءات وإنما واقع سوق العمل المشاهد في جميع القطاعات التي تم الإعلان عن نسب توطينها، إذ إنه ما زال غير المواطن هو المسيطر والمنفذ والقائم على الأعمال والتوظيف، ولا شك أن قضية التستر والمصالح المشتركة تشكل أحد أهم عقبات التوظيف والتوطين في سوق العمل، يضاف إلى ذلك الحاجة إلى مزيد من المحفزات والقوانين الضابطة للدفع نحو زيادة توظيف المواطن وتمكينه وتدريبه.