تحتاج والدتي – يحفظها الله – إلى مجرد عشر دقائق لتكون جاهزة لأكبر سهرة أو مناسبة زواج. تتوضأ ثم تلبس الثوب الطارف ثم تسكب الكحل الحجري المطحون على عيون شاهدت في ثمانين عاماً من التحولات الاجتماعية ما لم يشاهده كل من كان قبلها في ثمانمئة سنة. تزوجت والدتي من ابن عمها، والدي، رحمه الله، وكما تروي لي على – الميسور – من طعام أهلها، ثم مضت معه سعيدة، ودوداً ولوداً في قصة زواج ناجحة مكتملة. وأنا اليوم لا أكتب قصة أمي بل معاناة آلاف الأسر المحتاجة مع بناتهم وزوجاتهم في غمرة البهرجة والاستعراض وفي حفلات المظاهر الباذخة. عن وطأة الأغنياء القاسية على الفقراء في مجتمع يكذب على نفسه إذا ما ادعى أن بعض رموزه وأعيانه قد اتخذوا حولها المبادرات المناسبة. ومع إيماني أن خط الفقر اليوم لا يشبه ذاك قبل ستين سنة، إلا أن ميزة الفقر (القديم) أنه يوزع عدالته على الجميع ولم تكن به هذه المشاهد الطبقية الهائلة.
أنا أكتب اليوم، قصة ذلك الفقير العفيف، الذي يقول لي ما قبل البارحة، إن بناته الثلاث لم يحضرن مناسبة زواج في العامين الأخيرين لأنهن عُدنَ ذات ليلة خلت بخواطر مكسورة في آخر حفل زواج. هو يتذكر هروبهن للبكاء حتى لا يشاهدهن، وكل القصة كما روت له أمهن أن الملابس كانت رثة رخيصة ونشازاً في حفلات الاستعراض الطبقي. كان يتحدث عن ذلك المساء الكئيب بلسان جاف متخشب. ولن أنسى ما حييت تلك القطرات الشاردة من عينيه دونما بكاء أو نحيب. نحن مجتمع لا يعرف بعضه بعضا إلا المظاهر والقشور، ولكننا، وبكل صراحة، واحد من المجتمعات القليلة جداً التي لا تعرف عن بعضها مثل هذه القصص في عمق الهندسة الاجتماعية. والكذبة الكبرى من صنع أيدينا أن تكلفة المرأة الواحدة لحضور زواج لن تقل للبسيط العادي عن ألف ريال. وإذا ما افترضنا من خيال الأغنياء حضور 300 امرأة فهذا يعني أن تحت سقف القاعة من الأقمشة والعطور والمساحيق ما لا يقل عن مليون ريال. وأصبح لدينا من تبعات الكذبة ألا يعيد المليون نفسه وأصبح عيباً على المرأة أن تلبس مرة أخرى نفس الفستان. وكل القصة المحزنة في الجوف الظامئ لذلك الفقير أن مجتمع الأقارب والمعارف من حوله يظنون أن لدى بناته مرضاً نفسياً أو حالات اكتئاب أدت لهذه العزلة وهذا العزوف. كل هؤلاء هم من رمى بسهام النظرة الطبقية إلى الملابس الرثة الرخيصة ولم يعرفوا تبعات ليلة البكاء.. تخيلوا هذا الجرح الذي لا ينسى حين تقول امرأة بعطف للبنت الكبرى: (يا بنتي إذا ما معكم لبس زين لا عاد تحضرون).