تبقى مواضيع وقضايا الفساد مثيرة للجدل، وموضع فهم خاطئ لعدد من الناس، وهذا ما حدث بالفعل في قضية وزارة النقل، والتي أثيرت في الوسائل الإعلامية مؤخراً، والمتمثلة في جملة من الاتهامات أثارها أحد موظفي الوزارة، تتضمن وجود مخالفات مالية وإدارية وجرائم فساد متعددة.
اللافت للنظر في هذه القضية هو غياب وعدم وضوح أدلة الإثبات، سواء من قبل الموظف أم الوزارة، بالرغم من ادعاء الفريقين بوجود الأدلة والمستندات الثبوتية، لذا فنحن أمام ادعاءات واتهامات تكاد تكون إنشائية أو كلامية، إن صح التعبير، لأننا بكل بساطة لم نطلع على المستندات التي تثبت مزاعم المتهم والمدعي في هذه القضية.
والغريب في الأمر، أن الجهات الرقابية تدخلت في هذه القضية في وقت سابق وذلك باعتراف الوزارة والموظف معاً، إلا أنه من الواضح أن الرقابة لم تبت حتى الآن في هذا الموضوع، أو أنها عجزت عن إثبات المخالفات أو نفيها، وذلك لعدة أسباب، من أهمها في تقديري تعقّد العمليات والأنشطة الحكومية بشكل عام وعدم وضوح المسؤوليات والصلاحيات بشكل خاص، بالإضافة إلى غياب الرقابة المهنية، لذا تقف الرقابة حائرة أمام كثير من المخالفات النظامية والقانونية.
فعلى سبيل المثال يتهم الموظف الوزارة بتنفيذ مشروع قبل أن يُعتمد في الميزانية! وبعد تنفيذه بسنتين تم اعتماده في الميزانية، والسؤال المطروح هنا: كيف يتم الصرف للمقاول بدون وجود مخصص مالي للمشروع؟ كما من المعلوم أنه لا يتم الصرف إلا بعد اعتماد الممثل المالي التابع لوزارة المالية، والذي يعتمد على مسوغات الصرف والتي منها الارتباط المالي لمخصص المشروع، فكيف تم اعتماد الصرف إذن؟ في هذه الحالة يحتمل أن المقاول نفّذ المشروع على حسابه الخاص، وهذا مستحيل على أرض الواقع، أو يحتمل أنه تمت عملية نقل من بنود أخرى في الميزانية لهذا المشروع، أو أنه بالفعل تم التنفيذ قبل اعتماد المشروع، ولكن لا يتم ذلك إلا بموافقة وزارة المالية في كلتا الحالتين.
وفي المقابل أيضاً ردت الوزارة على هذه التهمة بالقول إن: "الجسر نفّذ على مرحلتين وفقاً للنظام بسبب عدم كفاية قيمة العقد الأول، لذلك ولحرص الوزارة على تنفيذ الجسر بأسرع وقت ممكن لخطورته وقت جريان السيول"، والأسئلة المثارة هنا: لماذا لم يتم اعتماد مبلغ المشروع كاملاً وفي مرحلة واحدة فقط رغم وجود مخاطر السيول؟ وهل كان هذا المشروع من ضمن الأولويات الهامة للوزارة؟ وما هي آلية ومعايير تقدير تكاليف المشروع في الوزارة ؟ وكيف تمت مناقشتها واعتمادها في وزارة المالية؟ هذه الأسئلة لو تمت الإجابة عليها فسوف توضح كثيراً من ملابسات القضية.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنه يمكن التحايل على نظام المنافسات والمشتريات الحكومية وعلى الاعتمادات المالية بوسائل متعددة ومختلفة، ولكن من نصدق الموظف أم وزارة النقل؟ فكما رأينا في المثال السابق هناك احتمالات متعددة، وأسئلة كثيرة، ولكن بدون أدلة ولا مستندات نظامية مؤيدة!
أنا هنا لا أفند ولا أحلل الادعاءات والتهم، فلست قاضياً، ولكن كغيري من القرّاء والمطلعين على هذه القضية، يهمني ما تسفر عنه هذه القضية من نتائج بالذات لما لها من تأثير بالغ على الخطط التنموية للدولة، وما حدث لوزارة النقل قد يحدث لباقي الوزارات والجهات الحكومية الأخرى، وخاصةً إذا علمنا أن هذه القضية بالتحديد تكاد تكون مشكلة بيروقراطية عامة.
وعلى أية حال، فإن القضية الآن تحت أنظار الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد وتمثل تحدياً كبيراً للهيئة، فهل تستطيع الهيئة فعل ما لم تستطع فعله الأجهزة الرقابية الأخرى، وخاصةً في ظل التعقيدات البيروقراطية؟.
في الواقع العملي، تعاني الأجهزة الرقابية، كما أشرت آنفاً، معضلة كبيرة في تحديد المسؤوليات عن المخالفات المالية والإدارية، وتعاني أكثر في إثبات وكشف قضايا الفساد، فأغلب قضايا الفساد يتم كشفها إما بالاعتراف الشخصي كالاختلاس أو عن طريق (الكمين) لقضايا الرشوة على سبيل المثال. وبالطبع لا يتم كشف هذه القضايا إلا عن طريق البلاغات. أما قضايا الفساد المتعلقة بالشبهات والمخاطر وتضارب المصالح واستغلال النفوذ وتحديد المسؤولية، فإنها تمثل معضلة أمام الجهات الرقابية.
فعلى سبيل المثال، قد تحوم بعض الشبهات حول مسؤول ما، وقد توجد بعض المستندات التي توفر مؤشراً على ارتكابه للفساد المالي والإداري، وعليه تقوم الجهة الرقابية بالتحقيق في ذلك، وعند مباشرة التحقيق والتثبت من الأدلة، يتضح أن المستندات والأدلة لا تدين هذا المسؤول، بل تدين موظفا صغيرا، ليس لديه صلاحيات أو مسؤوليات واضحة ومكتوبة، أو يتضح وجود مشاكل فنية تتعلق بتطبيق الأنظمة والقوانين، لتدخل الجهة الرقابية في دوامة لا تستطيع الخروج منها.
وهنا قد يقول قائل: " بما أن الوضع هكذا، فإن الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد قد تدخل في هذه الدوامة أيضاً ولن تخرج بنتائج مهمة، فما الحل إذن؟"، والحل في نظري يتمثل في تطبيق نموذج كشف الفساد وإثباته، والذي يتضمن آليات ووسائل متعددة في كشف الغش والفساد، ويقوم على أساس تقييم المخاطر بكافة أنواعها. وقد تحدثت عن هذا النموذج في مقالات سابقة، ولا داعي لذكر ذلك مرة أخرى، ولكن أود الإشارة هنا إلى ضرورة تطبيق مبدأ (من أين لك هذا؟) والإسراع في إصدار تنظيم إقرار الذمة المالية للموظف الحكومي، والتوسع من قبل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد في التحري عن الحسابات المصرفية من خلال مؤسسة النقد والبنوك، والتحري أكثر عن حسابات الشركات والمؤسسات والتي تنفذ مشاريع حكومية، والتنسيق مع الجهات الحكومية الأخرى مثل وزارة التجارة والصناعة ومصلحة الزكاة والدخل، مع النظر في الهيكلية الإدارية للمشتريات والمشاريع في الجهات الحكومية.