يؤكد بوتون في كتابه أنه (بينما احتفظت تلك الكيانات الخمسة بقبضة محكمة على الاختلافات بين النجاح والفشل، بين الجيد والسيئ، بين المخزي والمشرّف فقد اجتهدت لتعيد صياغة وعينا بما يمكننا أن ننسبه إلى تلك الثنائيات الجليلة، بحيث نكون محقين).
إضافة إلى أنها في سعيها هذا أسهمت في إضفاء شرعية على أولئك الموجودين في كل جيل، من غير القادرين أو غير المستعدين لتقديم فروض الولاء والطاعة للأفكار السائدة المكانة العالية، ولكنهم رغم ذلك قد يستحقون أن يصنفوا تحت فئة أخرى غير الوصف القاسي بكلمات مثل «فاشل» أو «نكرة». لقد زودتنا تلك الكيانات الخمسة بوسائل مقنعة ومُعزية لتذكرنا بأن هناك أكثر من طريقة واحدة للنجاح في الحياة، طرق أخرى غير طريقة القضاة والصيادلة.
قلق المكانة
يصفه بوتون بأنه (قلق خبيث إلى حد يجعله قادرًا على إفساد مساحات شاسعة من حياتنا، يساورنا خشية فشلنا في مجاراة قيم النجاح التي وضعها مجتمعنا، وخشية أن يتم تجريدنا نتيجةً لهذا الفشل من شرف المنزلة والاعتبار؛ قلق من أننا نشغل في الوقت الراهن درجة بالغة التواضع، ومن أننا قد ننزل إلى درجة أدنى عما قريب.
ويرى أن من مثيرات هذا القلق، بين عوامل أخرى الركود والكساد، العمالة الزائدة على الحاجة، حركة الترقيات التقاعد، الأحاديث مع زملاء في المجال نفسه، مقالات الصحف التي تقدم الأصدقاء البارزين والأكثر نجاحًا، على غرار الحَسَد (الملازم لهذا الانفعال) قد يُعتبر الكشف عن أي قدر من هذا القلق طيشًا اجتماعيًا، وبالتالي فمن النادر ظهور أدلة على الدراما التي تجري داخل نفوسنا، وغالبًا ما تبقى تلك الأدلة منحصرة في نظرة مهمومة، أو ابتسامة هشة، أو وقفة في الحديث طالت أكثر من اللازم بعد أنباء عن إنجاز حققه شخص آخر.
تحطم القلوب
يذهب الكاتب بوتون إلى أنه (يمكن القول إن حياة كل شخص بالغ تحكمها وتحددها قصتا حب كبيرتين، الأولى - قصة سعينا وراء الحب الجنسي – وهي قصة معروفة وواضحة المعالم، وتشكل أهواؤها المتقلبة قوام الموسيقى والأدب، وهي مقبولة ومحتفى بها اجتماعيًا، أما الثانية فهي قصة سعينا وراء حب الناس لنا، وهي حكاية مُخجلة وأشد سرية، وإن ذكرت تذكر بطريقة تهكمية لاذعة، كما لو كانت أمرًا لا يهم في الأساس إلا الحاسدين ضعاف النفوس، عدا ذلك فإن دافع تحقيق المكانة يُترجم بمعنى اقتصادي وحسب، ورغم ذلك فإن قصة الحب الثانية هذه ليست أقل حدة عاطفية من الأولى، ولا تقل عنها تعقيدًا أو أهمية أو عالمية، كما أن إخفاقاتها لا تقل ألمًا، هنا أيضًا تتحطم القلوب.
نسلم أنفسنا للغواية
لا يتردد بوتون في القول بـ( أن الدافع المهيمن وراء رغبتنا في الارتقاء على درجات السلم الاجتماعي قد لا يكون مرتبطًا بما نراكمه من سلع مادية أو ما نحوزه من سلطة، بقدر ما يرتبط بمقدار الحب الذي نتطلع لأن نتلقاه نتيجة للمكانة العالية، فمن الممكن تثمين كل من المال والشهرة والنفوذ بوصفها شارات رمزية للحب، ووسائل للحصول عليه، وليس كأهداف في حد ذاتها).
كيف نتأثر بغياب الحب؟
لماذا يجب أن يقودنا التجاهل إلى حالٍ من الحنق واليأس التامين، مقارنة به سيكون التعذيب ذاته مصدرًا للراحة ؟
يُعد اهتمام الآخرين مهمًا لنا لأننا بحكم طبيعتنا مبتلون بانعدام يقين نحو قيمتنا الخاصة، ونتيجةً لهذه البلوى فإننا ندع تقييمات الآخر لنا تلعب دورًا حاسمًا في الطريقة التي نرى بها أنفسنا، إن إحساسنا بالهوية أسير في قبضة أحكام من نعيش بينهم، إذا أضحكتهم نكاتنا زادت ثقتنا في قدرتنا على الإضحاك، وإذا امتدحونا تولّد فينا انطباع بكفاءتنا العالية، وإذا ما تحاشوا تلاقي نظرتنا عند دخولنا غرفة، أو بدا عليهم الضجر عندما نصرّح بطبيعة مهننا، فربما نسقط في فخ مشاعر فقدان الثقة في النفس وانعدام القيمة.
في عالم مثالي سنكون أشد مناعة إزاء تلك المؤثرات الخارجية، لن نهتز سواء تلقينا التجاهل أو الانتباه الإعجاب أو التسفيه، إذا امتدحنا شخص وهو غير صادق، فلن نسلم أنفسنا للغواية دونما استحقاق، وإذا أجرينا تقييمًا نزيهًا لمواطن قوَّتنا وحكمنا بأنفسنا على قيمتنا الخاصة، فلن يجرحنا افتراضُ الآخرين بأننا بلا شأن سنكون على ثقة من شأننا وجدارتنا.
*المكانة موقع المرء في المجتمع.
*الكلمة مشتقة من الأصل اللاتيني (statum) أو الوقوف.
*تشير إلى موقع المرء قانونيًا ومهنيًا داخل المجتمع. بالمعنى الأشمل: قيمة المرء وأهميته في أعين الناس.
*تمنح المجتمعات المكانة لمجموعات مختلفة من الأشخاص:
-صيادي الحيوانات
- المحاربين
- العائلات العريقة
- الكهنة
- الفرسان
- المرأة الولود.
*منذ العام 1776 في الغرب صارت المكانة تُمنح بناءً على ما يحوزه المرء من المال.
*للمكانة العالية نتائج مُستَحبّة تتضمن:
(وفرة الموارد، الحرية، الرحابة، الراحة، الوقت، وربما ما لا يقل أهمية، إحساس المرء بأنه موضع اهتمام وتقدير).
*كثيرون يعتبرون المكانة العالية من بين أفخر وأثمن المتع، وقليلون من يعترفون بذلك صراحةً.
آلان دو بوتون (Alain de Botton)
* كاتب وفيلسوف بريطاني.
*وُلد عام 1969، في سويسرا لأبوين بريطانيين.
* درس التاريخ في جامعة كامبريدج.
* أكمل الماجستير في الفلسفة بكلية الملك في لندن (1991-1992).
* بدأ دراسة الدكتوراه في الفلسفة الفرنسية بجامعة هارفارد، لكنه قرر التوقف ليتفرغ للتأليف والكتابة.
* تُناقش مؤلفاته مختلف القضايا المعاصرة، مؤكدةً أهمية الفلسفة في حياتنا اليومية.
*نشرَ عددًا من المؤلفات، منها:
مقالاتٌ في الحب (1993).
كيف لبروست أن يغير حياتك (1997).
قلق السعي إلى المكانة (2004).
دورة الحب (2016).
*شارك في تأسيس مدرسة الحياة في 2008.
*ساهم بتأسيس مشروع البُنيان الحيّ في 2009.
* مُنح جائزة «زمالة شوبنهاور» تقديرًا لأعماله، وهي جائزة سنويّة تُمنح للكُتاب في مهرجان ملبورن للكُتّاب.