للحكاياتِ سحرُها الواقعي، وواقعيتُها السحرية، وفي السردِ نعيش وسنعيش بهذه المقولة، أتذكر -دائمًا- حبيبنا الأستاذ عبد الكريم الجهيمان، عرّاب حكاياتنا الشعبية، ومُنظِّر الحياة التواصلية الفريدة، ذلك الأستاذ الذي تَذكَّرنا أهميتَه لما طارت الطيورُ بأرزاقِ الحكايات نحو أمكنةٍ أخرى.

وهذه المقالةُ قليلٌ من الاعترافِ المتأخر، مما يجعلني أردد: ما دمنا تخلصنا من جهيمان، أما آن الأوان لأن نُعيد الجهيمان، ولنوقف سرديةَ الإهمال المتوالية تاريخيًا، فإذا اكتُشِفَت ليالي العرب (ألف ليلة وليلة)، في ليالٍ ليست عربية، ثم التُفتَ إليها بعد تهميشها..! واكتشفَ أحدُ الإسبانيين مبكرًا أنَّ ثمة رابطة بين دانتي في الكوميديا الإلهية وأبي العلاءِ المعرّي في رسالة الغفران، فالتُفتَ إلى الرسالة بعد أن كانت مهمشة.

إذن فلنعلي -بأنفسنا- شأنَ حكاياتنا وأمثالنا وسردية مكاننا التي كُتِبَت بعرقِ جبين الجهيمان، إذ ربما أنَّ الثقافات تُؤَسِس مراكزها وهوامشها ببُنى داخلية مؤثرة على حركةِ أفرادها ومجموعها، وربما من هنا أُهمِلَ فكرُ الجهيمان التواصلي الفريد مع المكان، وهُمشِت حكاياتُه وأمثالُه الشعبية، ووجِه كما ووجِهَت رسالةُ الغفران وصاحبها المعري، وكأني بهذه الحكايات والأمثال تنتظر من يُحييها، ويجعلها حَدثًا مُهمًا في البنى الثقافية السعودية، وأعني بالإهمال أن تكون نوادر للمهمّشين في مقاهيهم، أو حكايات عابرة لا تنفذ لوعي الأجيال، بينما صدور المجالس ووعي الناس وواقعهم لكتبٍ تُؤسِس الحياةَ كما يُريدها الأفق العام.


‏بل حتى حين اعتُني بألفِ ليلةٍ وليلة، صار لها مركزية الدراسةِ والعناية، وأما حكايات الجهيمان فتنتظر كاتبَها القارئ لينفض عنها غبار التهميش، أو تنتظر شعبَ تلك الحكايات يحيونها في وعيهم وواقعهم وتاريخهم، مما يجعلهم يتمثّلونها أدبيًا، أو دراميًا في إبداعاتهم المختلفة، مما سينعكس ذلك على المكون الاجتماعي، أو تُحيا في أنماطِ معمارهم المادي، أو شوارع ذاكرتهم.

‏ لا أبالغ -أمام نفسي- حين أقول: أتمنى لحكايات الجهيمان المنصتةِ للمكان وتاريخه أن تكون جزءًا أصيلا من هوية رسومات الشوارع، وإبداعات الفنون، والحكايات الدرامية، والأدبية السعودية، وذلك من خلال تمثّلات متعددة في اللاوعي، ولا يحصل هذا إلا بتشرّب علاقة تلك الحكايات بالأمكنة الحقيقية وذاكرتها التاريخية، وأصوات من رحلوا عنها، ومن يعيشون فيها، وربما أنَّ تلك الحكايات لا يكفي أن يُقال عنها مُهملة، بل محاربة، ولم تحارب تلك الثقافة الجهيمانية؛ لأنها من سلالة الحكايات السحرية؛ إذ الحرب ضدها لم تكن من سلالة الحرب ضد ألف ليلة وليلة، بل هي حرب في مسار لوحدها؛ لأنَّ حكايات الجهيمان وفكره التواصلي الفريد كان يمثل المكان الذي احتلته –فكريًا- جماعات دينية، أو المكان الذي طاروا به أصحابُه نحو أمكنة أخرى، وظلّ الجهيمانُ يحكي ويسرد -في وقت مبكر جدًا- للحجر والشجر، إيمانًا بأنها ستنطق يومًا لتخبر أولئك الذين رحلوا بفكرهم إلى أمكنةٍ أخرى، أنَّ هذا المكان وُلِدَت به حضارة وفلسفة ودين وعلم، وسياسة، وحروب، وحكايات وأمثال تمتصّ أزهارَ المكانِ فأعطت موسيقى بصوتِ الحياة المدفونة، وآلام أهلها البعيدة.

للأستاذ عبد الكريم الجهيمان عرشٌ لا يُشبهه عرش، ربما هكذا أراه، حتى حين كتب مذكراته وضع في تصديرها: «... أنا ليس لي تأثير بارز في حياة أمتي لا من الناحية السياسية ولا من الناحية الاقتصادية ...»، وربما هذا عين قوتِه الفريدة، ذلك التأثير السحري الفريد، الذي لم يجد أبناءً للمكان يقرؤونه، ويحيلونه إلى واقع، بل كُلُّ ما رأيناه -ولا أستثني نفسي- إشارات عارضة، أو دراسات آلية عنها وعنه.

إنَّ هذه المقولة تكشف عن تأثير مضمر أراد أن يبثّه الجهيمان في تلقي القارئ.. لنستمع إليه وهو يُشذّب القراءَ الذين سيقرؤون مذكراته، وهم قادمون بِنَفَسٍ يحمل أفكارًا وحكايات لا تنتمي لصوت المكان كما هو؛ يقول: «... فالذي يتطلع إلى أن يجد في هذه المذكرات مباحث دينية، فإنني أنصحه بأن لا يقرأها، ومن أراد مباحث فلسفية فلن يجدها، ومن أراد مخاصمات ومصادمات وآراء مبتكرة، فلن يجد لها ظلا ولا أثرًا، أما من أراد أن يجد صورًا من الحياة لعدة أجيال، فليقرأ هذه المذكرات.. ومن أراد نقدًا اجتماعيًا يهدف إلى الارتفاع بمستوانا الحضاري فإنه سوف يلمح بعض الإشارات والعبارات...».

وقد لا تحتمل هذه المقالة الحديثَ عما يجول في ذهن كاتبها، من معمارٍ للحكايات الشعبية، ونظرية الجهيمان التواصلية، وأهمية أن نعي أننا كائنات سردية، لكن لعلّ في شهرة حبيبنا الأستاذ عبد الكريم الجهيمان ما يكفي لأن يمسك القارئ بمجموع كتبه، فيُحلّق خيالُه نحو الثقافةِ المكانية، والسردِ الجغرافي الأسطوري، والواقع الحقيقي، والعشق المختلف، والمستقبل العلمي، والنظر التأويلي للحياة، والأماني البعيدة القريبة، فيؤمن –حينها القارئ- أنَّ الجهيمان -من الضرورة التاريخية لحياتنا السردية- أن يكون نمطًا دراسيًا فريدًا للمدارس، يتغلغل في كل المناهج فيعطيها صبغةً سرديةً تواصليةً محبة.

التفاتة:

حوربَ كثيرًا هذا الأستاذ، مع أنه كانَ العاشق لحكايات الأرض، في زمنِ حكايات اليقين المدرسي، وكان المنصِتُ للمكان، في زمن كراهية الذاكرة المكانية، وكانت نظريته فريدة في ظرف امتلأ بكل أسباب الأيديولوجيات والظواهر التي تستعيد تاريخ أمكنة لا تعرفها أرضُ الجزيرة، وليس بالضرورة أن تكون الحربُ نبذًا لشخصِه بصورةٍ مباشرة، بل قد تعني أنَّ نظريته التواصلية مع المكان نُبذت عن قصد، وحكاياته الشعبية طُردت من بيتها، وأمثاله -التي تشهد لها بيوت الطين، وأزقة المتعبين، وآلام الأمهات، وحروب طردت المستبدّين- هُّمشِت لصالح أمثالٍ بعيدة، تلاقى كل هذا النبذ مع أسباب الوعي الجمعي آنذاك، وظلّ هذا الفكر بعيدًا عن التأثير الاجتماعي.

التفاتةٌ أخرى:

ربما في هذه المقالة تجتمع ذاتيةُ المحب وموضوعيةُ الطرح الخارجي المشهود له من عدة أجيالٍ عاصروا الأستاذ، الذي بلغ مئةَ عامٍ، في سنة 2011؛ لهذا فشهرة مؤلفات المُتحدّث عنه خير معين على ما تقوله المقالة. وليعذرنا القارئ.