مرة أخرى تثبت المملكة العربية السعودية مساعيها الجادة لاستكمال تطوير منظومتها القضائية بما يتوافق مع المستجدات الحديثة التي أفرزها الواقع الذي تعيشه بلادنا في الوقت الحالي، حيث أقر مجلس الوزراء، أمس، نظام المعاملات المدنية، بعد دراسته والتصويت عليه في مجلس الشورى، حيث يأتي القانون الجديد شاملاً ومنظماً لجميع الأمور الحياتية المدنية.

ويهدف القانون في الأساس إلى توفير البيئة العدلية للمواطنين والمقيمين في السعودية، وتهيئة البيئة الاقتصادية للمستثمرين، وتمكين الجميع من معرفة حقوقهم وواجباتهم، حيث روعي في إعداده الاستفادة من أحدث الاتجاهات القانونية وأفضل الممارسات القضائية الدولية في ضوء أحكام الشريعة الإسلامية ومقاصدها.

كما ركزت نصوص القانون على حماية الملكية، واستقرار العقود وحجيتها وآثارها بين المتعاقدين، والأحكام المتعلقة ببطلانها وفسخها، وأحكام الفعل الضار وقواعد التعويض عنه، وتطرقت نصوصه النظامية كذلك إلى جميع صور الملكية وأحكامها. وتحديد مصادر الحقوق والالتزامات وآثارها، ووضوح المراكز القانونية؛ مما ينعكس إيجاباً على بيئة الأعمال ويزيد من جاذبيتها، ويسهم أيضاً في تنظيم الحركة الاقتصادية واستقرار الحقوق المالية، وفي تسهيل اتخاذ القرارات الاستثمارية، إضافة إلى تعزيز الشفافية وزيادة القدرة على التنبؤ بالأحكام في مجال المعاملات المدنية والحد من التباين في الاجتهاد القضائي وصولاً إلى العدالة الناجزة، والإسهام كذلك في الحد من المنازعات.


ومن مزايا النظام الجديد أنه يعكس المكانة المتميزة للسعودية على الصعيد العالمي، ويؤكد حرص القيادة الرشيدة على أن تكون المنظومة التشريعية مناسبة لجميع الموجودين في بلادنا، إضافة إلى أن هذا القانون سوف يخفف تدفق القضايا على المحاكم وإنجاز العمل.

هذه النهضة التشريعية المتكاملة التي تشهدها المملكة، والتي تتزامن مع تطوير الكفاءات والقدرات البشرية للقضاة والمحامين وكافة العاملين في السلك القضائي وفي ميدان العدالة تحمل في مضامينها مكاسب كبيرة، في مقدمتها ترسيخ العدالة التي هي أبرز الأسس والقواعد التي قامت عليها السعودية منذ توحيدها على يد الملك المؤسس المغفور له -بإذن الله- عبدالعزيز آل سعود.

وقد جنت المملكة ثمار هذا الجهد المتميز بصورة سريعة من خلال تحسين وضعها على معايير الشفافية العالمية، وارتفع تصنيفها لدى المؤسسات المالية المرموقة، وباتت تصنف ضمن أفضل البيئات حول العالم، لا سيما بعد تزايد الحملة الوطنية لاجتثاث آفة الفساد المالي والإداري، وتغليب معايير النزاهة والشفافية، فتلك الجهات المالية الدولية تتمسك بتوفر الأجواء القانونية التي تضمن حقوق كافة الأطراف.

ومع أن المملكة قامت بالأساس على قواعد قانونية متينة، وحرص ملوكها سعود وفيصل وخالد وفهد وعبدالله -رحمهم الله- على ضمان حقوق الناس وعدم التساهل فيها، إلا أن ما نشهده في هذا العهد الزاهر تحت قيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز -حفظه الله- يمثل مرحلة غير مسبوقة، حيث تشهد المملكة طفرة قانونية ملحوظة، تهدف لترقية واقعها لتشريعي واستكمال جوانبه المختلفة، تجسيدا لما جرى التأكيد عليه في رؤية 2030، بعد أن اتضحت الحاجة إلى مسايرة المجتمع الدولي، وضرورة مواكبة المتغيرات بما لا يتعارض مع مقاصد الشرع الحنيف.

ومن الضرورة بمكان التأكيد على أن اتجاه المملكة نحو تحديث منظومتها القانونية هو خطوة استراتيجية تحسب لها وليس عليها، فالتحديث لا يعني أن هناك قصوراً واضحاً أو خللاً في النظام الموجود حاليا، لكنه مؤشر يؤكد الرغبة في التناغم مع معطيات العصر ومتغيراته. كما أن تواصل عملية التحديث والتعديل يجدد الرغبة في التطور والوصول إلى ما هو أفضل.

اللافت في النهضة التشريعية التي تشهدها السعودية هو أن القوانين تأتي تباعا ودون تعجل أو تسرع، فقد تم خلال الفترة الماضية إقرار قانون نظام الإثبات وقانون الأحوال الشخصية، واليوم يتم الإعلان عن إقرار نظام المعاملات المدنية الذي كان متوقعا صدوره في الربع الأخير من العام الماضي، لكن المصلحة اقتضت إجراء مزيد من الدراسة والتدقيق والمراجعة لأحكامه عبر لجان متخصصة تضم خبراء على مستوى عال، وذلك نظراً إلى أهمية النظام وحساسيته وارتباطه بأنظمة عديدة ومجالات مختلفة وأنشطة متنوعة مما يقتضي إحكام نصوصه، والتأكد من توافقها مع غيرها من الأنظمة ذات العلاقة.

هذا النهج العقلاني يثبت أن هناك خطة متكاملة يجري تنفيذها وفق آجال محددة، وهذه الخطة يشرف عليها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله- ويتابع كافة تفاصيلها بصورة شخصية، حيث أكد في أكثر من مناسبة أن السعودية تمضي بقوة في طريقها لاستكمال بيئتها التشريعية بما يضمن قدرة المنظومة القانونية على صيانة حقوق جميع الأطراف وضمان العدالة. وأنها تتمسك بالسير في طريقها نحو ترسيخ الحاكمية وجعلها أساسا للدولة الحديثة، لتعزيز مكانة المملكة في المحافل الدولية، ودعم حقوق الإنسان، وجعلها جزءا من ثقافة المجتمع وتكوينه.

هذه الجهود المتميزة وغير المسبوقة سوف يسطرها التاريخ في صفحاته، ويجعل المملكة منارة تهتدي بها بقية الأمم التي تمتلك الرغبة في التطور ومسايرة هذا العصر الذي تزايدت فيه التحديات، وتشعبت الاحتياجات وتداخلت المصالح، واكتسبت المعاملات التجارية الدولية أهمية كبيرة.

دولة لها مثل هذه القيادة الحكيمة الداعمة، وتمتلك هذه الرؤى والرغبة في التطور والمسايرة من الطبيعي أن يكون مكانها في طليعة الأمم، وأن تمضي في طريقها الذي رسمته لنفسها بمنتهى القوة، وأن تحقق أهدافها وترتقي بواقع شعبها، وهو ما نعيشه على أرض الواقع ولله الحمد.