يصادف المرء في دول الابتعاث نماذج متعددة من المبتعثين والمبتعثات، بعضهم مثير للإعجاب أو الرضا على أقل تقدير، وذلك إما لتفوقهم أو لأخلاقهم العالية وحسن تمثيلهم لوطنهم ودينهم. وفي الوقت نفسه هناك آخرون يثيرون غضبك واشمئزازك، إما لكسلهم وإهمالهم واستهتارهم بالفرصة التي منحت لهم فيما يتمناها غيرهم، أو لسوء سلوكهم سواء دينياً أو أخلاقياً، ولكن نادراً ما يقابل المرء نماذج تهزه من الأعماق بحيث يظل يفكر فيها لوقت طويل بعد أن يقابلها، والشاب عمار حسين هو واحد من هذه النماذج.

التقيت الأخ عمار في حفل الخريجين في أميركا هذا العام، عرفتني عليه الصديقة أمل النمنقاني، وهي مبتعثة سعودية وصاحبة مبادرة "يد الأمل" التطوعية، والتي تهدف لمساعدة الطلبة السعوديين من ذوي الاحتياجات الخاصة في أميركا، سواء كانوا من المبتعثين أو مرافقيهم أو الدارسين على حسابهم الخاص. وحينما عرفتني عليه دون مقدمات، ظللت لبضع دقائق أتساءل بيني وبين نفسي عن السبب الذي يجعلها مهتمة بتعريفي بهذا الشاب المهذب دوناً عن غيره حتى لمحت بالصدفة السماعة التي كانت تختبئ خلف أذنه. فأنا إذاً أتحدث مع شاب أصم، إلا أن طلاقته في الحديث على العكس من نظرائه أثارت استغرابي، فقد تعودنا أن يكون الأصم أبكم أيضاً، وحين سألته عن ذلك ابتسم وقال: إن من تربى وسط عدد من الأخوات لا بد أن يتعلم الكلام!

حكى لنا عمار عن معاناته في مدارسنا السعودية، فقد أدخلته عائلته مدرسة عادية غير مخصصة للصم منذ صغره، ولذلك كان يرتدي سماعته ويحرص على أن يتحدث مع الأساتذة في بداية كل عام ليذكرهم بوضعه وليطلب منهم التكرم بالتركيز عليه، ولا سيما حين يتحدثون عن أشياء مهمة، فالسماعة – والكلام لعمار- ليست مثل النظارة، فسمعك لا يصبح مثل سمع الشخص الطبيعي بها لصعوبة عزل الكلام عن الأصوات الأخرى كما تفعل الأذن البشرية التي أبدعها الخالق سبحانه، وبالتالي فهو يسمع بعض الكلمات مشوهة أحياناً، فمثلاً قد يسمع كلمة طيارة على أنها سيارة وهكذا، ولذلك يعتمد مثل غيره ممن حرموا نعمة السمع على قراءة الشفاه، وهي عملية ليست سهلة، فهناك من يتكلم بشكل سريع وآخر يمضغ الكلام وثالث يتكلم دون تحريك شفتيه. كما أن الشخص قد يتحدث بلهجة عربية لا يفهمها الأصم الذي بالكاد يفهم لهجة منطقته، فقد ذكر لي مبتعث آخر أصم وهو يبتسم أنه بدوي ويفهم لهجة أهله ولكنه لا يستطيع مثلاً قراءة شفاه شخص يتحدث بلهجة أهل مصر. وعودة لحكاية عمار في المدرسة مع معلميه ففي البداية يتحمس الجميع ويعدونه خيراً ثم يعودون فينسونه، وحين يعيد تذكيرهم يكون الجواب: "ولماذا تدرس معنا؟ اذهب إلى مدرسة مخصصة لأمثالك!" ومع هذه المعاناة استطاع عمار أن يتجاوز المراحل الدراسية في التعليم العام لكنه لم يستطع الالتحاق بالجامعات السعودية، فقد كان متأكداً أن الأعداد الكبيرة في القاعات لن تسمح لأي أستاذ كي يعامله معاملة خاصة تساعده على تجاوز عقبته السمعية، فقرر السفر على حسابه للخارج، ثم انضم لاحقاً لبرنامج الملك عبدالله للابتعاث، وها هو يواصل دراسته بنجاح في جامعة أميركية متميزة، ويحلم بمواصلة الدراسات العليا بعد التخرج.

كانت المرة الأولى التي أتواصل فيها حوارياً مع شخص يعاني من إعاقة سمعية أو كلامية، وقد عرفني على بعض زملائه من المبتعثين والخريجين ممن يعانون نفس معاناته، بل وبدرجات أشد قائلاً إنه هو شخصياً لم يسبق أن قابل أو صادق داخل المملكة شخصاً أصم مثله! وحدثنا أيضاً عن لغة الإشارة، وكيف أنه لم يتعلمها ويستفيد منها إلا في أميركا، فلغة الإشارة العربية تعاني من مشكلات عديدة أهمها أنها غير موحدة، مما يجعل الشخص الأصم يشعر أحياناً بأنه يتحدث بلغة مكسرة.

من حديثي مع الطلبة الصم عرفت أن معظمهم – بعكس عمار- يدرس في جامعة خاصة بهم في أميركا اسمها جامعة جالاديت (Gallaudet University) وهي جامعة أساتذتها من الصم أيضاً، وطلبوا مني زيارتهم هناك والاستماع لشجونهم ولما يرغبون في إيصاله لنا عبر الإعلام، وأتمنى أن تتاح لي مستقبلاً بالفعل هذه الزيارة المهمة.

حديثي مع هؤلاء الطلبة الذين يجمعون بين الطموح الكبير والعزيمة الصادقة مع الأخلاق العالية والابتسامات التي تعكس الرضا والتسليم بأقدار الله تعالى أعطاني على صعيد شخصي أملاً في الحياة، وعلى صعيد عام جعلني أفكر كم نحن مقصرون، سواء في المؤسسات التعليمية أو وسائل الإعلام أو حتى في حياتنا الاجتماعية اليومية في حق هذه الفئات الغالية. كما أن تجاوز هؤلاء الطلبة لإعاقاتهم وللعقبات العلمية وتجاوزهم مرحلة اللغة دون مماطلة وحصولهم على قبولات جامعية يرفع العذر عن الكثير من الطلبة غير المعاقين جسدياً، والذين يحاولون تقديم مبررات واهية لتغطية استهتارهم وكسلهم.

الطالب صاحب الاحتياجات الخاصة يعرف أن الأرض غير مفروشة بالورود وأن الفرص المميزة لا تتكرر، ولهذا يبذل مجهوداً مضاعفاً، ولذلك آمل أن يتم تقديره حينما يعود للوطن، وأن يُنظر لشهادته لا إعاقته حينما يقدم على وظيفة تليق به، فهو لا يحتاج منا شفقة وإنما ثقة وتقديراً. كما آمل أن تكون هناك نسبة معتبرة في كل دورة من دورات الابتعاث مخصصة للطلبة ذوي الاحتياجات الخاصة، ليس عطفاً على حالهم وجبراً لخواطرهم، بل لأن النماذج التي نراها في الخارج أثبتت أنهم يستحقون البعثة عن جدارة.