وعلى الرغم من أنه كان لكثير من قبائل العرب من الشعراء من سجل مفاخرها وآثارها، وحدد معالم بلادها، فإن أكثر شعر القبائل - وإن كان معروفا إلى منتصف القرن الخامس الهجري - أصبح بالنسبة إلينا مفقودا باستثناء شعراء هذيل الذين وصلت إلينا مجموعة من أشعارهم حفظت لنا منذ القرن الثالث الهجري فيما رواه ابن حبيب والسكري، وأصبح متداولا بين أيدينا، وفيما أورده الهجري في القطعتين اللتين وصلتا إلينا من نوادره، مما لم يدرس بعد، حيث إن مجموع أشعار الهذليين إذا درس دراسة كاملة أمدنا بالوافي من المعلومات عن بلادهم، ومثل هؤلاء شعراء بني سليم، وهم كثيرون، حيث يتجاوزون المئة، وفي أشعارهم الشيء الكثير عن تحديد منازل قبيلتهم. أما غيرهم من القبائل فإننا لا نجد من الشعر المنسوب إلى القبائل نفسها إلا النزر اليسير، وهو مع قلته ذو فائدة وغناء.
فضلت لبيدا بالبدء لما ذكرت، وأيضا لأننى أدركت أن الرجل وقد أدرك الإسلام فقد عاش بعيدا عن منازل قومه، ومن هنا حفل شعره بذكر مواضع كثيرة لا صلة لها بمواطن قبيلته، ومواضع أخرى رأى أن ذكرها منسوبة إلى فروع أعلى من الفرع الذي ينتمي إليه قد يكون أليقا وأوضح في تحديد ما أراد تحديده، لذلك فقد اتخذت من شعره أساسا لهذه المحاولة التي أردت منها أن تكون تجربة لدراسة المواطن القبلية على أساس ما ينتمي إليها من شعر.
لقد كانت قبيلة لبيد - بالنسبة إلى غيرها من القبائل التي تنضوي تحت اسم بني عامر بن صعصعة بن بكر بن معاوية بن هوازن - قبيلة صغيرة، ولهذا فلا يعجب الباحث عندما يرى هذا الشاعر قد أشاد بالأصل الأعلى لقبيلته، وهو الأصل العامري، أكثر مما تعرض لما يتعلق بقبيلته، ومرد ذلك إلى أن بني عامر في عهد لبيد كانت متماسكة، متصلة الفروع، متجاورة المنازل، وبنو عامر هؤلاء تنضوي تحت اسمهم قبائل عديدة، منها بنو كلاب، وهم قبائل متعددة، وبنو جعدة والحريش وبنو قشير وبنو العجلان وبنو عقيل، وكلهم معروفو الصلة في بني عامر، ولكون لبيد عاش في المدن الإسلامية بأول العهد الإسلامي مثل المدينة والكوفة، فإن خبرته بمواطن أسرته القريبة (بني جعفر) عند مقارنتها بما ذكره عن القبيلة الأم تعد من النزر اليسير عندما تقارن بما ذكره من منازل بني عامر، وعلى هذا قامت هذه الدراسة، أو بمعنى أصح المحاولة الأولى لدراسة مواطن قبيلة هذا الشاعر.
يضاف إلى هذا أن لبيدا أدرك العصر الذي حدثت فيه أعظم موجة من الموجات التي أثرت في تغيير منازل القبائل وانتشار الإسلام، ثم بانسياب هذه القبائل إلى جهات أخرى بعيدة عن بلادها، مما أضعف صلتها بها، حيث انساح أثر الفتوحات الإسلامية إلى أقطار بعيدة، بينما كان لبيد يعيش في الكوفة بعيدا عن مواطن قبيلته، ولا يعرف عنها كل شيء، إذ حلتها قبائل أخرى، ثم بعد أن ضعف الحكم في قلب الجزيرة، وفكرت القبائل العربية في العودة إلى مواطنها الأولى كان لبيد ممن لم يدرك ذلك العصر، ولهذا يجد الدارس اضطرابا عظيما في تحديد تلك المواطن، بينما يحدد مثل هذا الاضطراب في شعر لبيد نفسه الذي عاصر موجة عارمة من موجات نزوح القبائل عن مواطنها، جعلت الدارس شعره يعجب من كثرة ما يذكره من المواضع مما لا صلة له بمنازل قبيلته، ولا نريد الاسترسال في الموضوع، فهو بحاجة إلى بحث مستفيض، ولكننا نكتفي الآن بإلقاء نظرات عابرة من خلال شعره متأثرة بتلك التطورات التي أشرنا إليها، لكي نحدد معالم منازل قبيلته قبل عهده وفي عهده وما بعده إلى عهد كانت العنصرية القبلية لا تزال قائمة على المحافظة على مالها من عادات قديمة، لنتخذ من ذلك مدخلا لموضوع بحثنا.
لقد كانت قبيلة بني عامر هي الأصل الأعلى لبني جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، فلنبدأ بتحديد موجز لبلاد بني عامر التي تحل أكبر جزء في وسط بلاد نجد، ويمكن تحديده على النحو الآتي، مع ملاحظة أن الشاعر ذكر من مواطن هذه القبيلة ما يقرب من أربعين موضعا، قد يكون من بينها ما ليس من مواطن القبيلة: إما لتشابه في أسماء المواضع أو لتحريف حصل في اسم الموضع نفسه أو لخطأ جاء من الرواة المتقدمين الذين كثيرا ما ينسبون اسم الموضع الوارد في شعر الشاعر إلى قبيلته، وإن لم يكن من بلاده.
تمتد منازل بني عامر غربا من الحجاز، حيث يخالط بعض بطونهم بني جشم في مياههم الواقعة بقرب جبل حضن، وينتشرون في أسافل الأودية التي تنحدر من سراة الحجاز في أودية: تربة وكرا وبيشة، حيث تحل بطون من الضباب بن كلاب وعامر وهلال ابني ربيعة مجاورة لبني سلول والهزر من أكلب من خثعم، ثم تمتد منازل بني عامر مشرقة على ضفاف أودية السراة التي تنحدر صوب نجد، حتى تتصل بوادي الدواسر، المعروف قديما باسم عقيق بني عقيل، ويحاورهم فيه بطن من قضاعة من جرم، ثم تمتد منازلهم حتى تلتقي ببلاد بني الحارث بن كعب شمال نجران.
أما أرض خويلد فرمل الجزء، وحدد نصر هذا بأنه بين الشحر ويبرين، وطوله مسيرة شهر، تحله أفناء القبائل من اليمن ومعد وعامتهم من خويلد ابن عقيل، ويتوغلون شرقا، حتى يخالطون بني سعد بن زيد مناة بن تميم في البياض الواقع شرق الأفلاج والأفلاج من بلادهم، بل تمتد ديارهم إلى الرمال الواقعة شرق نجران، كما قال صاحب كتاب «بلاد العرب»، ثم تمتد بلادهم نحو الشمال، حيث توجد بلاد بني جعدة، أحد بطونهم بقفا العارض، أي في شرقيه بصدور أوديته. أما أعاليه فلهزان وجرم، وفي غرب العارض تنتشر بطون عامر حتى رملة الوركة، المعروفة الآن باسم نفود قنيفذة، فتميل حدود بلادهم نحو الغرب، ويفصل بينها وبين بلاد تميم أرض المروت، وتستمر مغربة حتى تقرب من وادي التسرير المنحدر من جبال النير نحو الشمال، على أن بني نمير بن عامر يحلون بعض الأمكنة الواقعة شرق التسرير، ومن غرب وادي التسرير تنعطف بلاد بني عامر نحو الشمال، حيث تشمل قسما كبيرا من حمى ضرية، ثم تتجه صوب الغرب إلى ضفاف وادي الجريب الواقع غرب الحمى، فتسير باتجاه المحدارة نحو الجنوب الغربي، حتى تبلغ بلاد بني سليم الدفينة وما حولها، ثم تتجه صوب الغرب، حتى تبلغ حضنا وما حوله من دون صحراء ركبة.
وهذه الرقعة الواسعة من الأرض لا يخالط بني عامر فيها سوى بني غاضرة إخوتهم، فهم يحلون غربي النير، وباهلة فبلادهم تقع وسط بلاد بني عامر، وهي سواد باهلة أو عرض باهلة، المعروف الآن بالعرض، وما حوله، وممن يخالط بني عامر في بلادهم قبيلة غني.
وقال الهجري: بين أسفل التسرير وأعلاه في ديار غني مسيرة ثلاثة أيام، وقد صار حدا فاصلا بين قيس وتميم، لأن أوله لغني ثم شرقيه لتميم، ويقصد بقيس بطونا من بني عامر تجاور غنيا كبني نمير من الشرق، والضباب من الغرب، وبطون من بني كلاب من الجنوب.
1972*
* باحث وكاتب وصحافي سعودي «1910 - 2000»