ذكّرت مشاهد وصول طلائع الحجاج إلى المنافذ الجوية في المدينة المنورة ومحافظة جدة منذ مطلع الشهر بكل يسر وأمان، بسلسلة من الإجراءات التي اتخذتها المملكة منذ التأسيس لحماية الحجيج وقوافلهم التي كانت تعاني قبل التأسيس من غزوات قطاع الطرق والعصابات، ومنها فرض أول قانون طوارئ، وعدد من الإجراءات الاحترازية والطوارئ الصحية.

وأكد باحثون ومهتمون بتاريخ الحج أن المملكة العربية السعودية صنعت المستحيل لتأمين الحجاج وضمان حسن وفادتهم منذ تأسيسها على يد المؤسس، واكتسبت خبرات متراكمة جعلت منها أفضل منظم للحشود في العالم حسب كثير من الشهادات العالمية.

الطريق إلى مكة


أشارت المصادر التاريخية إلى أن الحجاز شهد عشرات الرحلات العلمية القادمة من الغرب من أجل رصد حركة قوافل الحجيج والحرفة السعودية في فن تنظيم وإدارة الحشود، وأفردوا لها فصولًا في مؤلفاتهم التاريخية حتى أصبح الطريق إلى مكة أهم ما يتسابق إليه الرحالة والكتّاب في تاريخ وأدب الرحلات العالمية.

حبس احتياطي

توضح الوثائق التاريخية أن المملكة اتخذت منذ بداية تأسيسها على يد الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود طيب الله ثراه عددًا من الإجراءات التي وسمت من قبل مؤرخين بأنها «إجراءات احترازية» ضمنت حماية الحجاج، وذلك قبل اكتمال منظومة الخدمات في تأمين طريق الحاج وصلت إلى ما يقترب كثيرا من تحقيق المستحيل، ومن بين تلك الإجراءات أن الأجهزة الأمنية عملت على حصر أرباب السوابق والخارجين عن القانون الذين يشكلون خطرا على الحجاج وفرزهم بالنسبة لما يتوقع أن يشكلوه من خطر على طريق الحاج، وقسمتهم إلى ثلاث فئات:

ـ الأولى: وهم الأخطر من مجهولي الإقامة والسكن والذين يتم القبض عليهم وحبسهم (سجنهم) طيلة أيام الحج، ولا يطلق سراحهم حتى يغادر الحجاج.

وغالبية هؤلاء المجهولين من (الحنشل) أو قطاع الطرق غير معروفي الإقامة لصعوبة تتبعهم، وكان ذلك قبل تأمين الطرق على طريق الحج.

ـ الثانية: ممن يخشى على الحجاج منهم، وهم يلزمون بالحضور والتوقيع في المخافر ومراكز الشرط والأجهزة الأمنية كل 12 ساعة طوال أيام الحج لضمان تواجدهم في المدن، وكانوا يلزمون بالحضور إلى مراكز الشرطة لإثبات حضورهم مرتين في اليوم والليلة.

- الثالثة: هم الأقل خطورة، ومن المعروفين بمحال سكنهم، حيث فرضت عليهم رقابة ذويهم وعشائرهم، وألزموا بإحضار كفلاء من المعروفين لدى الجهات والأجهزة الأمنية يكفلون تواجدهم وعدم غيابهم عن محال سكنهم (إقاماتهم) طيلة أيام موسم الحج.

قانون الطوارئ

كان الإجراء الذي شمل الفئة الثالثة أشبه ما يكون بقانون الطوارئ الذي عملت به الدولة السعودية في بداية تأسيسها أيام الحج.

وأسهم هذا القانون بحماية المشبوهين وأصحاب السوابق من التهم والشكوك التي قد توجه إليهم من بعثات الحج، حيث قد يتهمون بالسرقات وغيرها، وكانت هذه القوانين بمثابة إجراءات وإثباتات حمتهم بالدليل كونهم محل شك في قضايا سرقات ونهب الحاج قديمًا.

مراقبة عاما

لم تكتف الدولة بتلك الإجراءات فقط، بل حاصرت أصحاب سوابق السرقة والسلب والنهب في الداخل بإجراءات احترازية أمنية ترصد القادمين من خارج المملكة، لا سيما الأفراد الذين لا يتبعون حملات معروفة.

وتؤكد مصادر داخلية أن القائمين على تنظيم الحج منعوا المشتبه بهم القادمين للحج من الخارج من الاختلاط ببقية الحجاج، ووصل الأمر إلى أن بعض المشتبه بهم منعوا من دخول المشاعر وبقوا في رعاية الدولة عاما كاملا مقيمين في الدور المخصصة للحجاج حتى تراقب تصرفاتهم عاما كاملا، ويتم التأكد من سلامة أوضاعهم، وسمح لهم في العام التالي بالحج ومغادرة البلاد، وكان هذا الإجراء اختياريا مع عدم منعهم من العودة إلى بلادهم في أي وقت شاؤوا.

عزل صحي

إضافة إلى الإجراءات الأمنية، فرضت المملكة على المشتبه بهم صحيا أوقات انتشار الأوبئة والأمراض المعدية إجراءات صحية تمنعهم من مخالطة الحجاج في المشاعر المقدسة إلى حين التأكد من سلامتهم الصحية، وأنهم لا يحملون أي أمراض معدية.

واهتمت الدولة السعودية منذ تأسيسها بالتأمين والحماية الصحية للحجاج، وخصصت مواقع كانت تسمى بالمحاجر أو المحجر، وهي مواقع يعزل فيها من يصل إلى الموانئ ومداخل المملكة وتثبت إصابته ببعض الأمراض المعدية والأمراض الخطيرة، ويبقى في المحاجر برعاية الأجهزة الصحية، فإن سلم من المرض المعدي سمح له بالحج، أو أعيد إلى بلاده دون أن يخالط الحجاج.

وكانت منطقة مواجهة لميناء جدة الإسلامي تعرف باسم الـ«كرنتينة»، قد استخدمت في خمسينيات القرن الماضي حجرا صحيا، وجاء اسمها مشتقا من اللفظ الإنجليزي لمنطقة الحجر الصحي.

وتصادفت مواسم الحج قديما في بعض السنوات مع تفشي بعض الأمراض المعدية، ومنها الحمى الشوكية، والحمى الإسبانية، والجدري، والكوليرا.

وأشارت دراسة أصدرها معهد خادم الحرمين الشريفين لأبحاث الحج والعمرة حديثا، إلى أن الحج تأثر بالأوبئة منذ قرون بعيدة، وخاصة أوبئة الكوليرا والطاعون، وما زالت الأمراض المعدية تمثل مهددا حقيقيا لمواسم الحج الحديثة.

وتبيّن من خلال البحث أن أكثر الأوبئة التي شهدتها مواسم الحج منها الأمراض التنفسية مثل الزكام والرشح والالتهاب الرئوي، تلتها أمراض الجهاز الهضمي مثل النزلات المعوية والإسهالات والحمى الشوكية.

سندات وبنوك ومصارف

جنبا إلى جنب مع الإجراءات الأمنية والصحية، عملت المملكة عند التأسيس على إجراءات مالية احترازية، من بينها نشرها للبنوك والمصارف الدولية والمحلية، وإنشاء أماكن لتبديل العملات أوقات الحج، وابتكار ما يسمى بالسندات المالية، حيث يقوم الحاج قبل مغادرته بلاده عن طريق البر أو البحر بتحويل أمواله إلى سندات تصرف عند وصوله من السفارات وممثلات بلاده في المملكة.

أدلاء ومترجمون

سارعت الدولة منذ تأسيسها إلى التعاقد وتوظيف أبناء الجاليات للاستفادة من لغاتهم المختلفة، خصوصا ممن سبق لهم الحج أكثر من مرة، وكذلك من المقيمين في المملكة، ليعملوا أدلاء ومترجمين بعد تأهيلهم وتدريبهم، حيث كانوا يصحبون وفود الحجاج في مشاعر الحج ويدلونهم على الطرق الصحيحة لإتمام مناسك حجهم، ويصحبونهم ويساعدونهم في إنهاء إجراءاتهم وتعاملاتهم أثناء وجودهم في المملكة.

صناديق الأمانات

اهتمت الجهات المعنية بمتابعة الحجاج منذ قدومهم للمدينة المنورة ومكة المكرمة والحفاظ على أمتعتهم ومتعلقاتهم.

ومما يحفظه تاريخ الحج أن الأجهزة المعنية أنشأت ما يسمى بـ«صناديق الأمانات» حيث تقوم الجهات العامة بخدمة الحجاج باستلام متعلقات الحجاج والحفاظ عليها وإعطائهم أوراقا ثبوتية مؤقتة، ثم وفرت ونشرت صناديق الأمانات لحفظ أغراضهم ونقلها لهم للمشعر التالي حسب حركتهم.

أحكام مستعجلة

فضلا عن توفير مترجمي الإشارة لأصحاب الظروف الخاصة والمفتين الذين يرشدونهم إلى أداء مشاعرهم كلفت الدولة المصلحين ورجال الحسبة، كما قامت منذ تأسيسها بندب قضاة وفتح مكاتب للإدارة والمحاكم المستعجلة للعمل في المشاعر المقدسة لإجراء التعاملات والإنهاءات العدلية من إصدار الوكالات وتوثيق الوصايا والصلح وغيرها، إضافة إلى بتّ القضاة كقضايا مستعجلة في بعض قضايا الحجاج الجنائية والفصل في المنازعات التي تحدث أثناء الحج حتى لا يضطر الحاج إلى الخروج من المشاعر حتى ولو كان مذنبا.

رصد الملاحظات

منذ عهد المؤسس، ومن جملة الخدمات التي قدمت للارتقاء بالخدمات التي تقدم للحجاج والمعتمرين سنويا، كلفت الدولة مراقبين يرصدون الوضع العام للحج ويدونون ملاحظاتهم ويرفعونها للقيادة لعرضها على اللجان والإدارات المختصة للاستفادة منها بشكل تراكمي لدراستها ومعالجة الظواهر في موسم الحج، وتحسينها في المواسم المقبلة.

وبدأت عمليات الرصد بأشخاص يجوبون مخيمات الحجاج للمراقبة والرصد، وتطورت حتى أصبحت اليوم معهد خادم الحرمين لأبحاث الحج والعمرة.

المراسلات والمشاورات

صاحبت مواسم الحج منذ قيام المملكة عادات كانت بمثابة مؤشرات القبول والأداء، وذلك من خلال التباحث ومراسلة المسؤولين عن بعثات الحج عند انتهاء رحلة الحج ووصولهم إلى بلدانهم لمعرفة وقياس مستوى الجودة، وسماع شكاواهم ومقترحاتهم لو وجدت لعرضها على الجهات العاملة في الحج بغية معالجتها والارتقاء بالخدمات المقدمة لضيوف الرحمن.