«كانت حياة إدوارد سعيد سياقا حيويا جدا لعمله بین العام والتاريخ الفردي».. هكذا وصفه «تيري إيجلتون»، بينما لا أحد من المثقفين العرب في القرن العشرين وضع المثقف عين الاستقراء والتأمل والنقد مثلما فعل إدوارد سعيد (1933 ـ 2003) في محاضراته الصوتية بالأصل، وتاليًا في كتابه «صور المثقف» أو «تمثيلات المثقف»، وعلى نحو عالمي، بحيث ينطبق في أحيان غالبة على كل أحوال المثقف الحديث والمعاصر في العالم بشتى أصقاعه، ومن ضمنها العالم العربي والإسلامي.

الكتابة الضدية

يتناول الدكتور رسول محمد رسول في كتابه «إدوارد سعيد.. المثقف الراديكالي» الذي عاش عمره - بحسب المؤلف - مثقفا راديكاليا يرفض الظلم بكل أشكاله، ومنه ما وقع على أنطولوجيته العربية ـ الفلسطينية، وعاش حياةً يكافح فيها الظلم أينما حلّ، وهو الإنسان الذي عرفناه مترحلا في منافيه بأصقاع العالم في الشرق والغرب، حتى وفاته في أمريكا، ودفن رفاته في لبنان 2003.

لكن سعيدًا ما ترك حياته هباءً منثورًا، إذ كتب باكرًا من عمره، وبقي يواصل الكتابة الضدية حتى النفس الأخير من حياته.

ويختار رسول «الكتابة الضدية» تحديدا، وعلى نحو جذري، باعتبارها من سمات المثقف الراديكالي، على حد تعبيره.

التدين الفاسد

يرى رسول في كتابه من الحجم الصغير، الصادر عن ( دار الرافدين)، والذي تكشف فصوله عن بعض سمات هذا المثقف، أن «الناقد الراديكالي من غير المحافظين مثل إدوارد سعيد، على نقيض غيره، أكسبه طابعه المُميز بلا تفريط بمبادئه الإنسانية من دون الوقوع في فخ الإنسانوية الساذجة أو المتطرّفة، لكونه تحرّر من الجوانب الروحية الفارغة غير المُجدية.. تلك التي سقط في أوحالها غيره، سواء على نحو ظاهر أو نحو مكبوت، وكان يلحظ ذلك بذكاء ورؤية دقيقة، ولذلك تصوّب بالنقد الراديكالي لهذه التوجهات في مقالاته وكتبه، فهو لا يشتري المكبوت الديني بدرهم، ولا يضمره ولا يظهره في خطابه، وهو المسيحي المتحرّر من ربقة الدين أو التدين الفاسد».

أفخاخ التطرف

يستعرض الكتاب أسماء لامعة في النقد الثقافي (Cultural criticism) مثل ريتشارد جونسون ستيورات، وهول ريتشارد هو غارت، وفالتر بنيامين، وأنطونيو غرامشي، وميتشل فوكو، ولوي التوسير، وميخائيل باختين، ويصنف إدوارد سعيد من بينهم، باعتباره ذلك «الناقد الثقافي» الأكثر براءة من مطبات السقوط في أفخاخ التطرف والخداع والسذاجة، ربما تلك التي نجدها لدى هؤلاء أو عند غيرهم من هذه الأسماء نوعا ما، ويثني على مشروعه النقدي الثقافي، عادا أنه «مشروع الناقد الثقافي الكوني والدنيوي (العلماني)، والراديكالي الثوري غير المحافظ، الذي لم يبع علمه إلى الرأسمالية أو الكونية الفاسدتين، إنما أسداه للإنسانية بلا مقابل مادي، لكونه لم يسمح لوجوده أن يكون مثقفا مأجورا عند جماعة أو فرد أو أية جهة مؤدلجة تنال المعنى الأصيل للحقيقة».

المثقف والمنفى

ولأن الرجل عاش في أكثر من مكان، وتمثل أكثر من ثقافة، وخاض فيهما بولع متفرّد ما جعله يعيش «شعورا بالغربة المزدوجة» ـ على حد تعبيره ـ فإننا غالبا ما نتذكر «المنفى»، هذا الفضاء الذي عاشه فيه سعيد ملتاعا متألما، فلا هو بالعربي الذي تمكن من السيطرة على حياته في اللغة الإنجليزية، ولا هو بالعربي الذي استطاع أن يحقق كُليًا في اللغة العربية ما قد توصل إليه في اللغة الإنجليزية، لذا نلاحظ طغيان - كما يقول الرجل نفسه - كم من الانزياحات، والتغايرات والضياع، والتشوه، والانزلاقات، الأمر الذي سرعان ما يعنى عنده مقولة أخرى، باتت تميز الرجل، وهي مقولة «الغربة»، ولكن ليست الغربة المزدوجة التي ذكرها في كتابه «خارج المكان» 1998، وإنما الغربة التي تحوّلت إلى «منفى».. هذه المفردة التي تلقاها سعيد بحفاوة قل نظيرها لدى أي مثقف عربي آخر في كتاباته، بعد أن نجح في تكثيف دلالاتها، وتحويلها إلى سياق للمقاربة والمحايثة، مع موجودية المثقف نفسها في كتابه «صور المثقف»، وحاول أن يعمقها في ذاكرته الشخصية، سعيا وراء هويته العربية في مذكراته «خارج المكان»، ومن ثم عقلنة مفهوم المنفى وفلسفته في كتابه «تأملات في المنفى» في 2002».

أنصاف الانفصالات

يذهب رسول في إصداره إلى أنه يمكن القول بأن كتاب «صور المثقف» تناول مسألة المنفى بشغف منقطع النظير، حيث بدأ بها الفصل الثالث من الكتاب، وهو بعنوان «المنفى الفكري.. مغتربون وهامشيون»، ويعد الأكثر تميزا عن غيره، وتحدّث سعيد فيه عن المنفى (Exile) بسلاسة فائقة، وكذلك بموضوعية كان للعلاقة بين الذات والآخر فيها نصيب، محللا بنزعة في المنفى أن هناك نوعين من المثقفين النازحين:


مثقف يُعد نفسه جزءا من وضع أكثر عموميّة، وعنده القدرة على المسايرة السياسية الانتهازية، وعلى التوافق مع قوة مهيمنة ما جديدة أو صاعدة، ففي الولايات المتحدة يوجد هنري كيسنجر (ولد في فورت سنة 1923)، القادم من ألمانيا النازية، وكذلك زبيغنيو بريجينسكي (1928 - 2007)، القادم من بولندا، وكلاهما نجح في التساوق والانسجام مع المنفى الأمريكي في تحوّلاته وتقاطعاته، وفي همومه وطموحاته.

أما النوع الثاني من المثقفين المنفيين فقد ركز إدوارد سعيد في حديثه عنه على القيمة الوسطيّة فيما ينتجه المنفى من قلق، فالمثقف المنفي يعيش قدرا من الوسطية، فلا هو ينسجم مع المحيط الجديد، ولا هو يتخلص كليا من عبء البيئة الماضية، وتضايقه أنصاف التدخلات وأنصاف الانفصالات.. إنه تشوفي وعاطفي من ناحية، ومقلد حاذق ومنبوذ لا يعلم به أحد من ناحية أخرى، حالة حسب هذا النوع.

وللتدليل على ذلك، يتحدّث سعيد عن نماذج من هؤلاء المثقفين القلقين والوسطيين الذين يرفضون المسايرة الانتهازية، والاندماج الشامل الكلي، ومنهم، مثلا، الأيرلندي جوناثان سويفت (1667 ـ 1745) في القرن الثامن عشر، والكاتب ذو الأصول الهندية أ. س. نايبول (1932 - 2018).

* يقسم سعيد الممارسة النقدية إلى أربعة أشكال:

1 - النقد العملي (مراجعة الكتب في الصحافة الأدبية).

2 - التأريخ الأدبي الأكاديمي (تخصصات القرن التاسع عشر كدراسة الأدب الكلاسيكي والفيلولوجيا وتأريخ الحضارة).

3 - التقويم والتأويل من زاوية أدبية.

4 - النظرية الأدبية: برزت كميدان للبحث الأكاديمي والشعبي في الولايات المتحدة.

إدوارد وديع سعيد Edward W. Said

ناقد أدبي فلسطيني - أمريكي

أحد أهم المثقفين العرب في القرن العشرين

ثمة من يعده واحدا من أهم عشرة مفكرين تأثيرا في القرن العشرين

ولد في القدس 1935

توفي في نيويورك 2003