في الحكايات العادية التي سمعناها في طفولتنا أن فتاة يتيمة عثرت في تجوالها على حاكم نائم نومًا دائمًا، وقد حكم غيب مقدر ألا ينقذه من نومه إلا فتاة ترضى أن تواصل السهر كل ليلة سبع سنين تروح له خلالها بمروحة مسحورة. وقد وقع هذا الحاكم من نفس الفتاة فسهرت سبع سنين وروحت له حتى دنا موعد استفاقته. ولكن النعاس غلب الفتاة الساهرة في الدقائق الأخيرة فأغفت، وإذ ذاك برزت غريمة سوداء مجهولة وانتزعت المروحة من يدها وروحت للنائم دقائق، وعندما استفاق ظن أنها هي التي أنقدته فتزوج منها. واستفاقت المنقدة الحقيقية فإذا كل مجهوداتها قد ضاعت.

إن هذه الحكاية الأسطورية الساذجة أعمق مما تبدو لنا أول وهلة، ولعلنا نرثى كثيرًا للفتاة اليتيمة ونحمد الله على أن قصتها خرافة لا حقيقة.

غير أننا لو دققنا في موقفها وحللنا مشاعرها لوجدناها تتصل بحياتنا المعاصرة في العراق اتصالا وثيقا. إننا كلنا هذه الفتاة اليتيمة، وشخصية الغريمة السوداء المجهولة تملأ حياتنا وتلقى ظلا غامقا على آمالنا وأفكارنا. وإنها لتنتصب أمامنا في كل أغنية من أغانينا سواء منها ما تردد على شطآن دجلة والفرات في جنوبي العراق، أو ما كتب في المدن المتحضرة التي نظنها تخرج تدريجيًا عن الإطار النفسي القديم لثقافتنا الشعبية. مع أنها في الواقع لا تفعل ذلك إلا ظاهريًا وحسب. وإذا كانت الفتاة اليتيمة قد أحست بالحزن والثورة على غريمتها السوداء فإن أغانينا لم تزل حتى اليوم تردد تلك الحسرة التي ملأت قلبها وهي ترى جهودها الطويلة تتبدد، وكان كل لحن من ألحاننا قد نذر نفسه للثأر من تلك الغريمة.


إن شخصية الغريمة السوداء التي لا يملك قلبها حنان الإنسانية، لم تزل هي الشخصية الكبرى في الأغاني العراقية التي يرددها الشعب. ولكنها طبعًا لا تتخذ شكل فتاة سوداء ذات مروحة، وإنما تلبس ثيابًا شعبية من حياتنا المعاصرة فنحن نجدها متخفية في ثياب (العذول) و(اللائم ) اللذين تكثر أغانينا الشكوى منهما، وقد تتخذ هيئة ( الواشي) و(النمام) اللذين يعكران على المحب سعادته بنقل أنبائه إلى حيث يجب ألا تنقل. ومن أقنعتها الكثيرة شخصية (الحسود) التي لا ينقطع شعور المحب العراقي بها.

وفي أحيان لا تندر تظهر الغريمة السوداء متخفية في ثياب الشخصية العراقية التي تسميها أغانينا «حافر البير» وهو شخص يوقع بغيره ويحبك الدسائس. إن هؤلاء كلهم: العدول، والواشي، والنمام، والحسود وحافر البير ليسوا إلا أوجها متعددة لشخصية الغريمة السوداء في حكاية الفتاة اليتيمة، فإن وظيفتهم الأولى هي التعكير على المحب الذي يبقى شاكيًا من سوء المعاملة التي يلقاها منهم.

غير أن الغريمة السوداء تظهر في أغانينا على صور أخرى أكثر خفاء، وقد تبرق عيناها خلف تلك الأغاني الوديعة التي يشكو فيها المحب من أهله الذين يتدخلون في شؤونه العاطفية ويحولون بينه وبين حبييته. وبعد فمن هم «هلى يا ظلام هلى»؟

هؤلاء أليسوا هم الغريمة السوداء التي تجيء لتحطم الآمال في اللحظة الأخيرة؟ إنهم صنف آخر من العراقيل. والنتيجة أن الفتاة اليتيمة تخرج في كل مرة مدحورة وتلوذ بالغناء الحزين الذي ما زال يردده سائقو السفن العراقية وهم ينحدرون في الفرات من قرية إلى قرية بين الشواطئ الساهمة المثقلة بالتخيل.

1957*

* شاعرة وكاتبة عراقية «1923 - 2007»