الأولى: إنهم بتصرفهم ذاك خرجوا على الإمام الشرعي، ونقضوا بيعته التي له في أعناقهم، لأنهم لم يسافروا سفرا طبيعيا، بل زعموا أنهم «هاجروا بدينهم»، وهذا خروج صريح على الإمام، الذي له حق السمع والطاعة في المنشط والمكره، كما جاء في حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه: «بايعنا رسول الله ﷺ على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله تعالى فيه برهان، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم»، والكفر البواح هو، كما شرحه الشيخ محمد بن عثيمين - رحمه الله، الكفر الصريح الذي لا يحتمل الظن.
وقد ذكر في شرحه هذا الحديث على أن هناك شروطا لتحقق الكفر البواح، وهي:
أولا: أن «تروا»، فلا بد من علم، أما مجرد الظن فلا.
ثانيا: أن يُعلم أنه كفر، لا فسقًا، إذ إن فسق الأئمة لا يجيز الخروج عليهم، بل حتى لو شربوا الخمر، وزنوا، وظلموا الناس، فلا يجوز الخروج عليهم؛ لِمَا للخروج عليهم من مفاسد وشرور وفتن يتعدى أثرها أثر تلك المنكرات.
ثالثا: الكفر البواح أي الكفر الصريح، والبواح الشيء البين الظاهر، فأما ما يحتمل التأويل فلا. يعني لو قدّرنا أنهم فعلوا شيئًا نرى أنه كفر، لكن فيه احتمال أنه ليس بكفر، فلا يجوز أن ننازعهم بسببه، فضلا أن نخرج عليهم.
رابعا: عندكم فيه من الله برهان، أي عندكم دليل قاطع على أن هذا كفر، فإن كان الدليل غير مقطوع في ثبوته، أو غير مقطوع في دلالته، فلا يجوز عندها منازعتهم بسببه، لأن في منازعته شر كثير، ومفاسد عظيمة.
أما المخالفة العقائدية الثانية فهى استحلالهم ما أسموها «الهجرة»، التي أبطلها النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة، حين قال:«لا هجرة بعد الفتح»، فبعد فتح مكة لا يجوز لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يخرج من بلده المسلم إلى بلد آخر بزعم «الهجرة»، بالإضافة إلى أن هجرة الصحابة إلى الحبشة، وهجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لم تكن حينها مرتبطة بكفر المجتمع الذي كانوا يعيشون فيه، بل بمنعهم ــ أي النبي عليه الصلاة والسلام والصحابة ــ من ممارسة شعائر دينهم، وهذا ما ليس متحققا في الـ«هجرة» المزعومة لأولئك النفر.
ثم إذا افترضنا ــ جدلا ــ أن ثمة معاصي ومنكرات متفشية في مجتمعنا، كما يزعمون، فنقول إنه بالإضافة إلى أنه لا يجوز الخروج على الإمام، ومشاغبة المجتمع بمجرد وجود منكرات ومعاصٍ، فلنا أن نسأل: هل تلك المعاصي والمنكرات تصل إلى حد الكبائر الموعود عليها بـ«نار أو غضب أو لعنة أو عذاب»، كما هو تعريف الكبائر عند ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن البصري وغيرهم، أم إنها من الصغائر؟.
لا أحد من أولئك الخارجين يستطيع أن يزعم أن المنكرات التي زعموا تفشيها في المجتمع من الكبائر، فلم يبق إلا الصغائر، وهنا نسأل أيضا: هل الصغائر التي يشغبون علينا بسببها مقطوع بحرمتها ثبوتا ودلالة، أم أنها مما هي محرمة دلالة دون ثبوت أو ثبوتا دون دلالة؟. الواقع أن غاية ما يمكن أن يقال عن المنكرات التي يزعمون، ويسوغون خروجهم وهجرتهم بسببها، إنها لا تعدو أن تكون من المختلف فيه، مما يعني أنها تقع تحت القاعدة الفقهية المشهورة «لا إنكار في مسائل الاختلاف».
نحن لا نشك في أن أولئك الخارجين عن الإجماع، الشاقين للصف، المحادين لله ولرسوله، لم يخرجوا نصرة لدين أو شرع أو عقيدة؛ ذلك أن نصرة الدين لا تكون إلا وفق ما شرعه الدين نفسه، ومما شرعه الدين، الذي يزعمون أنهم يستظلون بظله، أنه لا إنكار في مسائل الخلاف. وإذا كان الأمر هكذا، فكيف سوغ أولئك القوم لأنفسهم الخروج على الإمام، وشق عصا الطاعة، والزعم بأن الهجرة ماضية لمجرد وجود خطايا أو أخطاء غاية ما يقال عنها إنها من مسائل الخلاف، هذا على افتراض وجودها.
بل إن بعض الفقهاء - رحمهم الله - حرم الخروج على الإمام، وشق عصا الطاعة، والشغب على المجتمع، حتى مع وجود الكفر البواح، لأنهم قارنوا ما يترتب على الخروج من مفاسد عظيمة، وهرج ومرج، وفتن وفوضى، وتعطيل للعبادات والمعاملات، بما يترتب على وجود الكفر، فوجدوا أن الخروج أعظم أثرا بما لا يقاس، وهذا واقع معاش نستطيع أن نتحقق منه بمجرد أن نيمم وجوهنا شطر بعض دول محيطنا، وأخرى خارجه، لنرى كيف تحولت مجتمعاتها حين أسقطت أنظمتها بفعل الثورات الملعونة إلى خراب تنعق فيه البوم، بل أصبح الخارج فيها من بيته مفقودا، والعائد إليه مولودا.
المؤكد أن أولئك الذين زعموا أنهم «هاجروا» نصرة للدين إنما فعلوا ذلك بغية سلطة سياسية لم يجدوا إلا أن يغلفوها برداء «ديني»، لعلهم يقنعون من يستطيعون، ليكونوا وقودا لنار فتنة يوقدونها لاحقا، ابتغاء شهوة سياسية نفعية، فلقد ابتغوا الفتنة من قبل، وقلبوا لنا الأمور، حتى جاء الحق، وظهر أمر الله وهم كارهون.