كان لأمل تجربة بالغة القسوة، وأدرك يومئذ أنه كان الطفل اليتيم الذي يحاول أن يدفن أحزانه، وأن يواري دموعه.

حقق أمل دنقل بقصائده الجريئة عن النكسة وآثارها شهرة واسعة، وتحقق له من النجاح في عام واحد ما لم يتحقق له في سبع سنوات، هي عمر كل محاولاته الشعرية السابقة، حيث كان الطريق إلى الشعر قبل ذلك طويلا وشاقا، أما الآن فقد صار أقصر مما كان يظن، وإن كان لا يزال أشق مما كان يتوقع، وذلك بسبب إصراره على كتابة الشعر اللاذع، واختياره الطريق النبيل والصعب، طريق إشعال الجذوة في وجدان الجماهير النائمة المهزومة.. تلك الجماهير التي كانوا وما زالوا يتحدثون عنها في القصائد، وفي الخطابات وفي الصحف، كما يتحدثون عن فئران التجارب وأرانب المعامل، ولكن دون إحساس حقيقي بما تعانى.

ولعل أهم ميزة يتميز بها شاعر كبير کأمل دنقل أنه لم يكن يخاف من شيء، أو يخاف على شيء، وقد ساعدته عبقريته المنطلقة وطبيعته غير المنضبطة على الاحتفاظ بنقائه وتمرده.


بعد ثلاثة أعوام تقريبا من وقوع الهزيمة التي مزقت حياة العرب، وشوهت معالم الأيام العربية، رحل جمال عبدالناصر، وبعد رحيله بأربعين يوما التقي الشعراء العرب من مختلف الأقطار العربية، لتأبين الراحل.

وفي الاستراحة الجانبية للقاعة الكبرى، كان عدد من الشعراء والنقاد يقطعون الوقت في انتظار وقت افتتاح احتفال التأبين، وكنت قد أخذت مكانا بينهم، وكان أمل دنقل قد اختار مكانا قصيا في الاستراحة، وحيدا بعيدا عن الآخرين، وكان متوترا يُكثر التدخين، وكأنه يلتهم السجائر التهاما، وبين حين وآخر ينظر إلى السقف كأنما يحاول اختراقه بنظراته الحادة، وربما كان متوعدا، لأن قصيدة الرثاء لم تكتمل بعد، وقال آخر: لعل أحد الحاضرين قد حاول الإساءة إليه، مما جعله يبتعد مؤقتا، ليبدد شحنة الغضب، ثم يعود إلينا، ليملأ المكان بملاحظاته وضحكاته (وقفشاته) المختلفة.

انطلق صوت شاعر شاب يقول إنه يعاني حالة حزن حقيقي، لغياب عبدالناصر، فقد كان الرجل على الرغم من كل شيء الحارس الأمين للكلمة، والشعرية منها خاصة، واستقر الحدث بعد أن جال، وتنقل في ميادين شتى حول عبدالناصر، وكيف كان يعامل الأدباء بطريقة تختلف تماما، وينسحب ذلك على التعامل مع الأدباء الملتزمين.

وقد نال الشعراء خاصة طيلة عهده حظوة كبيرة، وشملهم برعاية خاصة، فلم يسمح للأجهزة بمصادرة أعمالهم الأدبية أو بمنعهم عن النشر والسفر، ولم يكن يُسمع في مصر أنها تتناول بالإساءة الشعراء العرب الذين يختلفون مع النظام الناصري.. حدث ذلك مع سليمان العيسى، ومع الجواهري، ومع البياتي، ومع الفيتوري ونزار قباني، حيث ظلت القاهرة مفتوحة لهم بعد مواقفهم، كما كانت قبل ذلك، وقد ظهر في وقت متأخر من حياة عبدالناصر بعض الشعراء الذين حاولوا من منطلق المنافسة غير المتكافئة الإساءة والتشويه المتعمد لمواقف بعض الشعراء خارج مصر، مما اضطر عبدالناصر نفسه إلى أن يتدخل، ويضع حدا لهذه الظاهرة المعادية للشعر والشعراء.

كان يدرك أن الشاعر الحقيقي في مصر، وفي بقية الأقطار العربية، يشكّل طاقة خلاقة، فالشاعر ليس كزرقاء اليمامة يرى الأشياء عن بُعد، ولكنه يرى الأشياء والأحداث بعين بصيرته الشعرية، ويتنبأ بها قبل وقوعها.

1983*

* شاعر وأكاديمي يمني «1937 - 2022»