الأخبار التي تتوارد عن وصول مجاهدين من الكويت أو من السعودية أو من غيرها، رغم أنها قد لا تكون بريئة، وقد تحمل بصمات الآلة الإعلامية للنظام، إلا أنها تدعو للكثير من القلق، ويوم أمس نفى العقيد رياض الأسعد قائد الجيش السوري الحر تلك الأنباء وأكد أنها من صنع النظام، وهو نفي مهم ومريح للغاية. وأكد الأسعد أن الجيش السوري الحر ليس بحاجة لمقاتلين وإنما بحاجة للمال والسلاح. رغم ذلك النفي المهم، إلا أن الواقع لا يلغي أن ثمة فهما خاطئا لما يحدث الآن في سورية من قبل بعض القوى الدينية في المنطقة. أبرز محاور ذلك الفهم هو إسباغ أدبيات الجهاد على ما يحدث في سورية، وتحويل قضية الثورة السورية إلى قضية جهاد وفق المفهوم الوحيد والقائم للجهاد، وهذا أحد جوانب الخطورة. الجهاد مفهوم أممي عابر للحدود، بمعنى أنه لا يعترف بالأبعاد القطرية والدولية التي يختص بها الوضع في كل دولة، بل إن إقامة الجهاد والتوجه إليه في أي دولة هو تفريغ لتلك الدولة من مفهومها القطري، وتحويلها إلى ثغر من ثغور الجهاد، وهو ذات ما حدث في العراق، والكثير من الشباب الذين توافدوا للجهاد في العراق لم يتجهوا إلى هناك ليمثلوا عامل استقرار للعراق بل ليدافعوا عن (الإسلام) ولينصروا الأمة، وليقيموا الجهاد لرد المحتل. وهو المفهوم الذي لا ينسجم أبدا مع الثورة السورية.
بكثير من الألم تابعنا بعد ذلك ما تعرض له كثير من الشباب السعودي الذين ذهبوا للجهاد في العراق حين تحولوا إلى لعبة رخيصة في أيدي الجماعات التي باعتهم واشترتهم بأبخس الأثمان، وتحولت أجسادهم إلى قنابل ترمي بها تلك الأيدي المتنازعة في وجوه بعضها البعض. أما من نجا منهم فقد عاشوا أسوأ ظروف اعتقال وتعذيب، وتحولوا بعد ذلك إلى قضية حقوقية وإنسانية بذلت فيها المملكة جهدا كبيرا لاستعادة من تبقى منهم.
جماعات العنف الجهادي هي في الواقع من أكبر الخاسرين بعد موجة الربيع العربي، بل إن أفكار التغيير الجهادي المسلح شهدت تراجعا وانحسارا كبيرا، فبعد ما يزيد عن عشر سنوات من أحدث الحادي عشر من سبتمبر واندلاع أعمال عنف في كثير من دول العالم، واتساع الجماعات الإرهابية، اتضح جليا عدم قدرتها على إحداث أي تغيير، وسقطت نظريات التغيير بالسلاح والإيديولوجيات، ليبدأ زمن الثورات السلمية التي استطاعت أن تحقق في فترات وجيزة ما عجزت عنه تلك الجماعات المسلحة.
إن مفهوم الثورة لا يتسق أبدا ومفاهيم الجهاد، فالثورة مرتبطة بالدولة، وليست بالأمة، وهـي تنطلق من قيم، على رأسها قيمة الحرية والخروج من الظلم والاستبداد، بينما الجهاد ينطلق في الغالب من مفاهيم فقهية تجعل من الطائفة والمذهب عوالم للفرز والتقسيم والاستعداء، لكن الثورة يقوم بها مواطنون من مذاهب وطوائف متعددة يجمعها الوطن فقط.
إن أبرز شعار رفعه القذافي ليهدد به العالم بعد قيام الثورة الليبية هو التخويف بالقاعدة وبالإرهاب، ولم ينجح في ذلك، وهو ذات الشعار الذي رفعه النظام السوري والإعلام السوري، والذي سيجد فرصة كبيرة جدا في ذلك الحماس الذي تبديه بعض المنابر والقوى الدينية في المنطقة في تعاطيها مع الأزمة السورية. إن بعض الفضايات الدينية والأصوات الدينية التي لا يوجد لها سوى تعريف واحد لكل حركة ثورية وهو التعريف الديني (الجهاد) يبالغون كثيرا في طمس معالم الثورة السورية لتصبح أرض الرباط، مما يشكل تحريفا للثورة وإمدادا لكل من يناهضها بالمزيد من المبررات.
الآن ثمة مسؤولية مهمة وتاريخية على عاتق الكثير من القوى والمنابر الدينية في المنطقة، تتمثل في ترسيخ أن ما يحدث في سورية ثورة لا مكان فيها لتدفق المجاهدين، بل ولا بد من تجريم ذلك الفعل وبيان خطره على الثورة وعلى السوريين وعلى تعاطف العالم مع ثورتهم.