يبدو أنه لا سبيل للشفاء من حمى كرة القدم في مثل هذه الأيام، هذه المستديرة المجنونة التي تكاد تعصف بكل أرجاء الكرة الأرضية في ظاهرة كونية لا مثيل لها تتكرر كل أربع سنوات، تشعر كما لو أن العالم بأسره يتنفس كرة القدم تماماً كما يتنفس الهواء. أقلب في أوراقي وأفكاري لأنتخب منها قضية ما أو فكرة ما أصافح بها القارئ العزيز صباح هذا اليوم، فلا أجد إلا مونديال جنوب أفريقيا حاضراً وبكل قوة في فكري ومزاجي، وأظنه كذلك مع كل الكتاب الآخرين غيري، أشعر كما لو كنت أسيراً لهذا المونديال بكل تفاصيله الجميلة والمثيرة كأبواق الفوفوزيلا المزعجة وكرة جابولاني المثيرة للجدل والخروج المدوي لقطبي الكرة البرازيل والأرجنتين والكثير الكثير من التفاصيل الممتعة والمشوقة لهذه البطولة الرائعة. أحاول جاهداً أن أهرب من هذا الحدث الكبير، ولكن يبدو أن كل الطرق تؤدي إلى جنوب أفريقيا، حيث بوصلة الكرة الأرضية باتجاه المونديال العالمي وهو يقترب من نهايته السعيدة. ولكن ما هو الجديد الذي أحمله أمام هذا الكم الهائل من المادة الإعلامية التي تضخها الماكينات الإعلامية الكبرى على مدار الساعة والتي ترصد الحدث لحظة بلحظة وخطوة بخطوة.
أحاول من خلال هذا المقال أن أرصد هذا المشهد الرياضي العالمي ولكن من زاوية أخرى، أسجل بعض الملاحظات والمفارقات والتناقضات التي أجدها تستحق الاهتمام والالتفات. لن أخوض في المباريات والأهداف والأخطاء القاتلة للتحكيم والبطاقات الملونة والخسارة والفوز والأصوات المنادية باستخدام التقنية وغيرها من التفاصيل المثيرة لهذا المونديال الرائع، لا لن أخوض في كل ذلك، فلهذا المجال كتّابه ونقّاده وجمهوره وهم يملؤون وسائل الإعلام ـ لاسيما الرياضية ـ ضجيجاً وجدلاً وثرثرة.
لم تعد كرة القدم مجرد لعبة تتقاذفها الأرجل ويعشقها الصبية. بالتأكيد لم تعد كذلك، فهي الآن صناعة متكاملة وتمثل قيمة حضارية عالية، بل هي وسيلة تنموية مهمة لا تقل شأناً عن السياحة والصناعة والثقافة، لقد أصبحت أيقونة حضارية تتلقفها الأمم وتعشقها الشعوب. لم تعد المدرجات مكاناً للعاطلين والفاشلين والهاربين من الدرس والعمل، بل هي تجتذب الآن رؤساء الدول والوزراء والسياسيين والمثقفين والفنانين والمشاهير، ولعل اللقطات الحماسية التي شاهدها الجميع للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل وهي تتابع من المدرجات المباراة التي جمعت ألمانيا بالأرجنتين ما يؤكد ذلك. لم تعد كرة القدم ترفاً أو "ملهاة للشعوب" كما كان يُشاع بين أوساطنا ونحن فتيان، بل هي الآن من أهم وجوه التقدم والتفوق البشري.
لقد أسهم هذا المونديال العالمي في لفت الأنظار ـ لاسيما الغربية ـ لبعض الدول المصنفة ضمن العالم الثالث، ولكن العزيمة والإرادة والحماسة التي أظهرها أولئك اللاعبون الموهوبون من تلك البلاد الفقيرة قدمت لكل العالم درساً ملهماً لمعنى النبوغ والتفوق والمنافسة، وأن كل ذلك ليس حكراً على فريق دون فريق، فعلى المستطيل الأخضر تتساوى كل الفرص والحظوظ، ويكمن الفرق في الاستعداد والرغبة والإصرار على تحقيق الحلم والظفر بكأس العالم، هذا الكأس الذهبي الذي يعني الكثير الكثير. دول تعيش على الهامش كالأرجواي وغانا وهندوراس وساحل العاج وتيرنداد وغيرها، ولكن المونديال يُشكل بالنسبة لها فرصة ذهبية لكي تثبت للعالم أنها تحتل مكاناً مهماً على خارطة العالم، وليست مجرد بقعة مهملة على قارعة النسيان.
أما بالنسبة لنا فننظر لهذا المونديال بشيء من الحزن والحسرة، فبعد أربع مشاركات متتالية، عدنا مرة أخرى لمقاعد المتفرجين، نشجع فريقا ونتمنى الخسارة للآخر.
نحن ومونديال جنوب أفريقيا قصة تستحق الكتابة، ولكن على عجل، تماماً كما هو إيقاع المباريات التي شارفت على الانتهاء.
النجاح الكبير الذي حققه الحكم السعودي خليل جلال في هذا المونديال، خاصة في ظل تواضع مستوى التحكيم في البطولة، يفتح من جديد ملف الحكم الوطني والأجنبي، هذا الملف الساخن الذي كان مثار خلاف وجدل ولغط تسبب للأسف الشديد في فقدان الثقة والاحترام للحكم الوطني الذي نجح وتألق في المحافل العالمية الكبرى، بينما يُتهم بالفشل والضعف والمحاباة أثناء قيادته لمباراة تجمع بين فريق الهدى بتاروت وفريق الأمل بالبكيرية وهما من فرق الدرجة الثالثة.
كذلك الغياب العجيب لقنواتنا وصحفنا ورياضيينا عن تغطية هذا المونديال الكبير من موقع الحدث يُثير أكثر من سؤال حول مدى قناعة القائمين على الرياضة في وطننا بأهمية التواجد الحقيقي في مثل هذه التظاهرة الرياضية الكونية التي ستُسهم في تطور كرة القدم في ملاعبنا، أم أن كل طموحاتنا تقف عند المشاركة الشرفية في تلك النهائيات!
كما استوقفتني كثيراً إجابة إحدى السعوديات حينما سئلت عن متابعتها لمونديال جنوب أفريقيا: "أتمنى أن تتكرر هذه البطولة كل عام، لأنها ستتيح لنا شهراً كاملاً من التسوق والتنزه بكل حرية وهدوء بعيداً عن معاكسات ومضايقات شبابنا الذين يتابعون هذه البطولة الرائعة في المنازل والمقاهي والاستراحات".
كثيرة هي تلك الملاحظات والمفارقات والتناقضات التي يمكن رصدها في حياتنا بسبب هذا المونديال الكبير، ولكن الأهم من كل ذلك، هو هل تعلمنا بعض الدروس من هذا الحدث الاستثنائي الذي شغل العالم، كل العالم؟