تعدّ الخبرات العلمية واحدة من أهم روافد تعزيز القدرات الاقتصادية للأوطان مشتملة على أمنها ورفاهها التنموي، وداعمة لحصانتها ومناعتها أمام المتغيرات والتحديات والأزمات، وتعظيم دور هذه الخبرات العلمية ينبني ابتداءًا على تعظيم أسباب إسهامها العلمي الحقيقي في برامج التنمية والاقتصادات الابتكارية الحديثة. وهذا كله مشروط باعتبارات رئيسة، أهمها إيقاف أسباب الاستنزاف المعرفي لهذه الخبرات وهجرتها من حيث تبدع إلى حيث تدخل في نوع من السبات البيروقراطي -أو ما غدا مشتهرا بمصطلح «الاستقالة الهادئة»- في بيئات العمل غير المنتجة الطاردة للإبداع، أو التحول كلية إلى مسارات مهنية أخرى تنأى بهذه الخبرات عن إسهامها العلمي الأصيل الأهم، ومن بين أهم تلك الاعتبارات أيضا حسن إدارة تلك الخبرات وقيادتها وتمكينها، وما يلزم ذلك من توافر البيئة الآمنة التي تتيح لهذه الخبرات أن تنمو ويزدهر إنتاجها، وتتيح المشاركة الفاعلة وتقبل حتى منطق التضاد المعرفي وتنوع الرأي في الاستفادة من أفضل الممارسات العالمية التي تنمي من قواعد الاقتصاد الابتكاري.
إن فشل الخبراء وبناء الخبرات في الأنظمة والمؤسسات الحديثة مدعاة للتأمل، خصوصًا في الدول الطموحة التي تنامت استثماراتها في المجالات العلمية والتقنية وفي تطوير قاعدتها العلمية من الخبرات الوطنية.
وهذا يؤكد ضرورة تأسيس أنظمة متطورة للحوكمة المؤسسية، تستهدف في المقام الأهم تعظيم الاستفادة من الخبرات وحسن إدارتها وتدريبها وتمكينها، وبناء نظام بيئي متكامل يتيح لهذه الخبرات أن تنجز في سياق ثقافة مؤسسية تشجع على الإبداع وتنبني على أنظمة تحدد الأدوار، والخطط، والمسؤوليات، والسياسات.
وإن فشل هذه الخبرات إنما هو في الغالب نتاج لفشل مؤسسي يسهم ويتسبب في تهميش دور تلك الخبرات وإضعاف أدوارها القيادية في صناعة القرار المؤثر، ما ينعكس على المؤسسات ذاتها بالضعف ويقود إلى فشلها.
يعظّم فشل إدارة الخبرات وتمكينها لا من أسباب فشل المؤسسات فحسب، بل من عوامل الهدر الاقتصادي وإعاقة بناء قاعدة صلبة للاقتصاد المعرفي والاقتصادات الابتكارية الحديثة.
وبالرغم من أن قياس نتائج سياسة تمكين الخبراء ونجاحهم في مهامهم وقياس بناء الخبرات من الأمور المسكوت عنها في كثير من المؤسسات، فإن التكاليف المتعاظمة للفرص المضيّعة والمخاطر الاقتصادية المتوقعة تحتم ضرورات وضع أنظمة للحوكمة المؤسسية تحمي ثقافة مؤسسية تشجع على الإبداع والإنتاج والمساءلة.