تم الإعلان الأسبوع الماضي عن طرح جزء من أسهم "السعودية للتموين" للاكتتاب العام، وهو إعلان يبدو أنه يمثل الخطوة الأولى في طريق طرح الشركات التابعة للخطوط السعودية، ومنها السعودية لنقل الركاب، إضافة لشركات الصيانة والشحن. وحتى يمكن لنا تقييم هذه الخطوة وكذلك الخطوات الأخرى السابقة واللاحقة لعمل الخطوط السعودية، ينبغي لنا التذكير بمنهجية وأسس التخصيص الناجح وتجارب الدول الأخرى مثل بريطانيا في التخصيص، وأهداف وسياسات برنامج التخصيص في المملكة.

تم إقرار برنامج التخصيص في المملكة عام 1418، والذي استهدف (20) نشاطاً وخدمة منها خدمات الاتصالات والنقل الجوي والنقل البري والخدمات الصحية والمياه والكهرباء والخدمات البلدية. وقد ركز برنامج التخصيص على تحقيق عدد من الأهداف من أهمها:

1. تقليل وترشيد النفقات الحكومية للنشاط أو الخدمة المستهدفة بالتخصيص.

2. زيادة إيرادات الدولة نتيجة لتخصيص بعض أنشطتها أو خدماتها.

وبالإطلاع على تجربة التخصيص في المملكة، تبرز تجربة التخصيص في قطاع الاتصالات كأول تجربة تخصيص في المملكة، حيث بدأت في منتصف التسعينات الميلادية من القرن الماضي، وإن كان هناك تجارب سابقة ولكنها كانت سابقة لبرنامج التخصيص، وتحديداً تجارب مثل تخصيص الكهرباء.

ما حصل في تجربة تخصيص قطاع الاتصالات من اجتهادات ومبادرات بعضها تتعارض مع المنهجية الصحيحة للتخصيص والمتبعة في الدول المتقدمة، وتحديداً ما يلي:

1. التحول بشكل مباشر من قطاع حكومي لشركة خاصة، دون المرور بمرحلة أولى أولاً، وهي أهم وأخطر مرحلة، مرحلة تتمثل في إخضاع القطاع للتقييم ورفع الكفاءة التشغيلية، بحيث يتم زيادة الإنتاج مع تقليل التكاليف، وهي مرحلة تتطلب قضاء أكثر من (5) سنوات للحصول على أفضل النتائج، وتنتهي بمرحلة تحديد مدى جاهزية القطاع للمضي في المراحل المتقدمة في التخصيص. وقد تم التحول المباشر ـ أو إلغاء مراحل التخصيص الأولى ـ من قطاع حكومي إلى شركة خاصة في قطاع الاتصالات من خلال إنشاء شركة الاتصالات السعودية، وهو ما يحصل حالياً في تجارب تخصيص أخرى مثل البريد والمياه والصرف الصحي وأمانات المدن وغيرها.

2. التخلص من الرقابة المالية لوزارة المالية، من خلال الحصول على صلاحية (مرونة) مالية، تسمح للجهة الحكومية، بعد ما يسمى تجاوزاً تخصيصاً، بوضع ميزانياتها وتحديد مستويات رواتبها ومشاريعها والصرف على أوجه مختلفة بشكل مستقل ودون أي رقابة مالية حكومية، وهو ما حصل في تجربة تخصيص قطاع الاتصالات وتجارب التخصيص اللاحقة مثل البريد والمياه والصرف الصحي وأمانات المدن، فقد أصبح هاجس وهدف بعض القطاعات الحكومية يتمثل بشكل أساسي في كيفية التخلص من الرقابة المالية لوزارة المالية، وهو ما وجدته هذه القطاعات في برنامج التخصيص.

3. تضخيم رواتب الموظفين الحكوميين بشكل خيالي وفلكي، تضخيم يتم دفعه من ميزانية الدولة، وهو ما يتعارض أيضاً مع منهجية التخصيص العلمية ومع الممارسات العالمية في التخصيص، وكذلك يتعارض مع أهداف برنامج التخصيص في المملكة. فمن غير المبرر، مثلاً، أن يتم زيادة أو تعديل رواتب موظفين من سقف (15) ألف ريال في الشهر إلى أكثر من (45) ألف ريال في الشهر، أو مضاعفته بأكثر من (300%)! وهذا ما حصل في تجربة تخصيص قطاع الاتصالات للأسف، ولحقه في ذلك تخصيص قطاعات أخرى مثل البريد والمياه والصرف الصحي وأمانات المدن.

4. صرف ما يسمى "شيكات ذهبية" لبعض الموظفين للتخلص منهم، وهو إجراء يكلف الدولة كثيراً ويزيد من الأعباء المالية على خزينة الدولة، وهو إجراء يبدو أنه مفضل لدى بعض الجهات الحكومية المستهدفة بالتخصيص، بل وإنه يتم أحياناً إعادة تعيين الموظفين المستبعدين (بالشيك الذهبي) وبرواتب تعادل أضعاف ما كانوا يتقاضونه!

في جميع تجارب التخصيص في المملكة، تم الاطلاع على تجارب الدول الأخرى، ولكن يبدو أن البعض يبتعد عن تطبيق الإجراءات الصعبة، ومنها رفع الطفاءة وتقليل النفقات وزيادة وتحسين الأداء، ويلجأ إلى الإجراءات السهلة، والتي لا تخدم حتماً لا القطاع ولا الدولة، وإنما تخدم أفراداً وموظفين وشركات خاصة، وهذا ما يتضح نتيجة عدم تحقق أهداف التخصيص، وأهمها تقليل الإنفاق الحكومي وزيادة الإيرادات الحكومية، فما حصل ويحصل للأسف العكس تماماً، تخصيص بطريقة تزيد من النفقات الحكومية.

في تجربة تخصيص قطاع الاتصالات، غطت الإيرادات العالية للقطاع وكذلك توقيت التحول من وزارة إلى شركة بشكل مباشر، توقيت صاحب الثورة غير المسبوقة في خدمات الاتصالات، وتحديداً ثورة الجوال، كل هذا غطى على المشاكل المصاحبة لتطبيق تجربة تخصيص قطاع الاتصالات، مشاكل تتعدى فقط تكلفة التحول وتحميل الدول مبالغ مالية طائلة نتيجة التخصيص، وإنما، وهو الأهم، ترسيخ فكرة وطريقة خاطئة للتخصيص، طريقة مكلفة وخاسرة للدولة والوطن، ولكن يبدو أنها مفضلة لبعض الأفراد والمسؤولين.

في دول العالم المتقدمة، تحدث الأخطاء، ولكنهم يتعلمون، والأهم وجود المراقبة والمحاسبة، وهذا ما ينبغي إعادة النظر فيه فيما يخص التعلم من تجربة تخصيص قطاع الاتصالات. ويمكن لنا في هذا الاتجاه العمل على ما يلي:

1. إعادة جميع مشاريع التخصيص الحالية تحت الرقابة المالية المباشرة لوزارة المالية، من حيث تحديد ميزانيات المشاريع وطرحها وترسيتها، والرقابة على أوجه الصرف المختلفة مع إعادة النظر في مستويات الرواتب، وكذلك مراجعة وتقييم المشاريع والمصروفات السابقة.

2. إعادة النظر في مشاريع التخصيص المستهدفة، فمن ناحية يمكن الإبقاء على بعضها مثل قطاع الاتصالات والنقل الجوي والبري نظير ما تملكه هذه القطاعات من قدرة على تقليل النفقات الحكومية وزيادة الإيرادات الحكومية أيضاً، وفي المقابل، ينبغي إلغاء عدد من المشاريع المستهدفة بالتخصيص الحالية والمستقبلية مثل مشاريع تخصيص المياه والصرف الصحي وأمانات المدن، والتي لا تملك مقومات ومزايا التخصيص ومن أهمها تقليل النفقات الحكومية وزيادة الإيرادات، ويمكن النظر وتحليل مقارنة النفقات الحكومية المخصصة لهذه المشاريع قبل وبعد تجربة التخصيص لتوضيح مدى الأعباء المالية المتزايدة سنة بعد سنة على خزينة الدولة نتيجة الدخول في مشاريع تخصيص بطريقة غير صحيحة ودون وجود جدوى اقتصادية في بعضها.

3. تخصيص مكتب تنفيذي ورقابي يتبع المقام السامي يختص بتطوير وتخطيط وإدارة مشاريع الدولة الاستراتيجية، ومنها برنامج التخصيص، على أن يتم الاعتماد على متخصصين وخبراء في التطوير والمشاريع من خارج رجال الأعمال والقطاع الخاص، وهذا المكتب سوف يساعد في تقليل العبء على المجلس الاقتصادي الأعلى في ما يخص متابعة برنامج التخصيص.