ويبدو من قراءة هذا الكتاب أن مستقبل السودان الزراعي يعتمد على هذه المنطقة اعتمادًا أساسيًا، فثمة أراض كثيرة ما تزال غير مستغلة استغلالا كاملا، وتجدر الإشارة إلى أن الخزان الذي يبنى الآن في الرصيرص، سيزيد من مساحة الأرض المزروعة في هذه المنطقة، والقارئ يخرج من هذا الكتاب بصورة واضحة عن إمكانيات السودان الاقتصادية، والمشاكل التي يجب حلها لتطويره ورفع مستوى معيشة سكانه، فهو من ناحية، بلد عظيم المساحة، الحياة فيه -كما يصفها المؤلف- جذابة ومتنوعة ومثيرة، وهو بأراضيه الخصبة الوافرة وغاباته وأنهاره، غني بالإمكانيات التي تضمن العيش الكريم لأضعاف سكانه الحاليين.
ومن ناحية أخرى، فإن رقعة القطر الواسعة تجعل مهمة المواصلات فيه مهمة شاقة، وتجعل إدارة شؤونه بطريقة فعالة أمرًا يحتاج إلى بذل طاقة خاصة، ثم إن اختلاف عناصر السكان وتفاوتهم الحضاري، يضع على كاهل القائمين على رسم المناهج الاقتصادية له حملا من نوع معين، وعلى سبيل المثال، تعيش في القطر مجموعات من البدو الرحل، مثل قبائل البجا في الشرق وقبائل الكبابيش والبقارة في الغرب، ماذا تفعل الحكومة إزاء هؤلاء المواطنين حين تضع الخطط لتوفير المدارس والمستشفيات لهم؟ وما هو أصلح نظام للإدارة بالنسبة إليهم؟.
وفي الجنوب مثلا تعيش مجموعة من القبائل النيلية وقبائل وسط أفريقيا، بينها وبين السكان في الجزء الأوسط والجزء الشمالي من القطر بون ليس صغيرًا في التطور الحضاري، هذه المجتمعات البدائية وشبه البدائية، هي بمثابة مسؤوليات في عنق أولي الأمر، تحتم عليهم أن يولوها عناية خاصة لتتساوى في التطور والوعي مع بقية أجزاء القطر، وفي الوقت نفسه، لابد للقطر كله أن يسير بخطى حثيثة، حتى لا تفوته قافلة الأقطار الأخرى.
إلا أن الكاتب، لحسن الحظ، لا يقصر دراسته على الناحية الجغرافية فحسب، ولكنه يغذي القارئ بمعلومات وافرة منثورة في فصول الكتاب، عن تاريخ القطر، وعن أصول سكانه وطرق حياتهم، كما يتحدث عن العرى التاريخية التي ربطت السودان منذ القدم بجيرانه في الشمال والشرق والغرب، وأنه مما لا شك فيه أن أخطر حدثين في تاريخ السودان هما: أولا دخول العرب، وثانيًا قيام الحكم الثنائي في العصر الأخير، فقد طبعت الحادثة الأولى السودان إلى الأبد بالطابع العربي في الدم واللسان وطريقة العيش وأسلوب التفكير، وكانت الحادثة الثانية بمثابة نافذة أطلت منها الحضارة الغربية، ووضعت القطر فجأة وجها لوجه أمام القرن العشرين، بكل ما يعني ذلك من مزايا ومشاكل، والكاتب يدرك هذا تمام الإدراك، ويستفيد من كل فرصة تسنح له لينبه القارئ إلى خطر هذين الحدثين، ولكنه -ولعل الذنب ليس ذنبه- يحاول أحيانًا أن يقلل من شأن الأولى، ويضخم من شأن الثانية.
ومهما يكن الأمر، فلا شك أن القارئ سيجد هذا الكتاب معينًا على زيادة معرفته بقطر بدأت الأنظار تتجه إليه أكثر من ذي قبل في السنوات الأخيرة.
1963*
* كاتب وروائي سوداني «1929 - 2009».