في مقطع في برنامج "اليوتيوب" على الإنترنت تظهر شركة صينية وهي تبني فندقاً بعشرين دورا في (90) ساعة فقط، تسلمه لمالكه ثم تنصرف إلى مشروع آخر لتهوي عليه بمعداتها وتنجزه وكأنها تسابق الزمن، وتعطي رسالة أن الأكفأ في هذا الوقت ليس هو "صاحب المال الوفير"، أو الإبداع والإتقان، بل هو "الأسرع" الذي يتقدم على الآخرين بخطوات، لتكون مهمة الآخرين هي اللهاث للحاق به.
في تقرير أظهرته هيئة الرقابة والتحقيق، رصدت فيه ضعف القدرات الفنية والمالية والإدارية لدى عدد من الأجهزة الحكومية، وإخفاقات للمقاولين الذين ينفذون المشروعات، يحل إشكاليات كثيرة من التساؤلات الاجتماعية حول ما يلاحظه الناس من بطء قاتل في تنفيذ المشروعات الحكومية والخدمية، مما أدى إلى التذمر والضرر الكبير الذي يمس عملية التنمية في المملكة، ويخلق مشكلات كبيرة تعيا عن الحل بين المؤسسات الوطنية وبين القطاعات الحكومية، وما يسببه هذا من خسائر فادحة وورطات يقع فيها كثير من الشركات والمقاولين، وما ينعكس على الأداء الضعيف للأجهزة الحكومية في إنجاز المشروعات الوطنية وخاصة تلك التي دشنها خادم الحرمين الشريفين ويتطلع إلى أن يراها منتهية بأحسن مواصفات وأجود أداء.
الحقيقة أن مثل هذه المشكلات لا تحتاج إلى هيئة رسمية لتؤكدها، فالمشاهدة والملاحظة الظاهرة تنبىء عن وجود مثل هذه المشكلات، وتذمر الكثير من المقاولين والمؤسسات في طريقة ترسية المشروعات، والبطء في تسليم المستحقات لأصحابها بات سمة عامة، فعدم أهلية الموظفين الذين لا يعرفون ما هي المتطلبات الضرورية لصرفها، وعدم الاهتمام والإهمال الذي يتشكي منه الكثير من المراجعين، والبيروقراطية التي تقضي على أحلام الكثير من أصحاب المؤسسات أسهمت في إيجاد المشكلات العالقة والتي تحتاج إلى حلول سريعة. وقد لا يدرك الكثير من المسؤولين في القطاعات الحكومية الضرر الذي يلحق بالمقاول حين تتأخر مستحقاته، والانعكاس النفسي الذي تخلقه هذه المماطلات في طبيعة أدائه، مما يزهده في العمل كله فيسرح عماله ويرضى من الغنيمة بالإياب.. ويعود إلى أهله بخفي حنين.
إن المملكة العربية السعودية الآن تشهد نهضة تنموية كبيرة لا يمكن أن تتحقق خططها في ظل الوضع القائم، فطريقة ترسية المشروعات فيها إشكاليات كبيرة، وصياغة العقود فيها إشكاليات، والبطء في تسليم المشروعات وتجهيزها للعمل فيه إشكاليات، وقلة العمالة المدربة والمؤهلة والتي تخرج العمل بشكل احترافي وسالم من العيوب سبب في تعثر كثير من المشروعات. وعدم التحقق من قدرة المقاولين وإمكاناتهم وتأهيلهم فنياً وإدارياً يشكل العامل الأكبر في تعثر المشروعات التنموية، فما بالنا ونحن مقبلون على طفرة إسكانية بمئات الآلاف من الوحدات السكنية، فإن كان بناء مسجد كبير في إحدى مناطق المملكة قد سحب العمالة من السوق، وبدأ الناس يبحثون عن العامل كأنه ذهب أحمر، فكيف إذا تصاعدت وتيرة البناء والتشييد.. كيف سيكون الوضع؟
إن المشكلة مشتركة بين ضعف الأداء عند بعض الأجهزة الحكومية وبين إشكاليات الشركات غير المؤهلة للقيام بالمشروعات، وخاصة أولئك الذين يحرقون الأسعار ليرسو عليهم المشروع ثم يكتشفوا خسارتهم عند إنجاز ربعه أو ثلثه، أو أولئك الجشعين الذين يأخذونه بمبالغ طائلة ثم ينفذونه من الباطن بأقل الأثمان، فتبدأ الصيانة بعد انتهاء المشروع، وتخرج المشروعات بصورة مؤسفة لا تليق ببلد مثل المملكة والتي يتطلع الناس فيها إلى سرعة الإنجاز، فقد سئموا من طول المدد التي تنفذ فيها المشروعات الخدمية، خاصة التي أصبحت الصبات والحفريات فيها جزءا من العلاقة اليومية بين المواطن وواقعه.
إن من الحلول العاجلة فتح المجال للشركات العالمية المحترفة للتحالف مع بعض الشركات الوطنية وضبط أدائها وتطويرها، والتدقيق في أهلية العمالة التي تستقدم وخاصة في الجوانب الفنية ووضع شروط عليها، مع فتح المجال للشركات للاستقدام بما يحقق إنجاز المشروعات، ثم تطوير القطاعات الحكومية لوضع الموازنات التقديرية للمشروعات ودراستها قبل تقديمها للمنافسة، بحيث تستبعد منها الأسعار القليلة التي يعرف أنها لا يمكن أن تنفذ بها، ومعالجة قضية صرف المستحقات والتي تسهم بلا شك في خلق مشكلات كبرى لدى الشركات في تأخر صرف استحقاقات العاملين فيها، وما يخلقه ذلك من إشكاليات إدارية ونفسية، وما أشار إليه التقرير من أهمية معالجة التأخر في ترسية المشروعات أولاً، والتأخر في إعادة الترسية مرة أخرى عند التعثر، وكذلك حث المؤسسات الصغيرة والمتوسطة على الاندماجات التي تجعل منها مؤسسات قادرة على إنجاز مشروعات التنمية بدلاً من عمليات "التقبيل" التي تعلن بالعشرات في كل يوم.
لقد حدثني صاحبي أن معاملة له في أحد القطاعات قد مضى عليها أكثر من سبعة أشهر لم تصرف وهو قد سلم لهم الأوراق اللازمة بعد التنفيذ بأيام قليلة.. ويتساءل: هل يتعمد هؤلاء النكاية بأبناء الوطن؟ أم إنهم في أدنى اهتماماتهم؟ فإن لم ينجزوا مثل هذه المعاملات، فماذا يفعلون في دوامهم طوال هذه الفترة؟