قبل أكثر من ألف عام رأى عبد الله بن زيد رؤيا الأذان، فأمره الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعلمها بلالاً، لأنه أندى صوتاً، فكان أول من رفع الأذان بعد أن ارتقى أسطوانة مرتفعة في دار عبد الله بن عمر المواجهة للمسجد النبوي، حيث كانت المساجد بلا مآذن، إلى أن بنيت أول مئذنة في الإسلام في عهد معاوية في الجامع الكبير بدمشق.
من المدينة المنورة التي فقدت أخيرا مؤذنها حسين بخاري، إذن انطلق أول أذان من حنجرة بلال ليظل صوته الندي ممتداً إلى العصر الحديث. فالحرم النبوي اشتهر على مدى التاريخ بحلاوة أصوات مؤذنيه التي تنساب في هدوء المدينة نغماً ضاجاً بالعذوبة والحياة، فلا يرتقي المآذن إلا أصحاب الأصوات الحسنة من تلك النوعية التي يجيء منها (عمر عينوسة) الذي برز كمؤذن قبل أكثر من أربعين عاماً، وكانت تميزه قوة الصوت الذي يصل مداه إلى مشارف المدينة.
والعينوسة توارث الأذان، حيث كان جده مصطفى شيخاً للمؤذنين قبل محمد سعيد نعمان في السبعينيات الهجرية، الذي أدى الأذان بعده من أسرته مصطفى نعمان وعبد الملك نعمان ومحمود نعمان.
بينما يتذكر أهالي المدينة عبد الرزاق نجدي الذي كان يوقف كل المارة في الستينات الهجرية لجودة أدائه، كما لا ينسون عبد الستار بخاري الذي كان من أبرع المؤذنين الذين أتقنوا أبجديات النغمات وأصول وفنون المقامات، وخلفه عدد من أبنائه في رفع الأذان، مثله مثل حسين بخاري ـ رحمه الله ـ الذي لم يكن يقل شأناً عنه هو وابناه عصام وعبدالعزيز بخاري.
ومن أتيحت له فرصة الاستماع للأذان من مآذن الحرم النبوي حتى عام 1400 يلحظ أنه كان هناك أكثر من مؤذن يرفعون صوت الحق قبل أن يقتصر الأذان على شخص واحد فقط. ويفسر بعض الباحثين بأن تعدد المؤذنين ربما كان باعثه سعة الحرم، لذا كان على كل مؤذن أن يوصل النداء لطرف من جهات المدينة، وذلك قبل ظهور المكبرات الصوتية، واستمرت هذه الظاهرة إلى عام 1400، إذ كان هناك أربعة أو خمسة مؤذنين يرفعون الأذان، يبدءون من المئذنة الرئيسة في باب السلام ثم المئذنة الشيكلية والعثمانية والرحمانية، وأضيف بعد ذلك مؤذن يرفع الأذان من المكبرية.
وكان الأذان يرفع عن طريق مقامات لها أصولها وقواعدها التي لا بد أن يلم بها أي مؤذن من مؤذني الحرم، فأوقات الغيم والمطر يحضر فيها مقام الماهور، والرصد لأوقات الليل، بينما مقام الدوكا لأغلب الأوقات.. لتتأكد عذوبة صوت أول من رفع الأذان في مدينة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ممتدة في الزمان والمكان، وتبقى المدينة المنورة متميزة بحلاوة أذانها ونداه.