حتى إذا انطلق مدفع الإفطار من الراديو أهرعوا إلى المائدة إهراع جنود الإطفاء إلى السيارة ثم يجلس الباشا بين بنيه ويضع المسبحة المعلومة مكان القدح المجهول.

التجدد أو التطور يصيب كل شيء. كان عهدنا بالصوم قبل اليوم أن يكون عصيانًا للنفس في طاعة الله، وحرمانًا للجسم في ميزة الروح، ونكرانًا للذات في معرفة الناس؛ فالجوارح مغلولة من الأذى، والمشاعر مكفوفة عن الشهوة، والخواطر مستغرقة في الدعاء بين نهار كله إحسان وتأمل وتصدق، وليل كله قرآن وتواصل وتهجد فلا الغني يهيج به البطر، ولا القوي تفرط عليه القدرة ولا الفقير يتجهم له الحرمان، وكأنما زالت الفروق بين الناس فأصبحوا سواسية في نعمة الدين وسعادة الدنيا!

كان الرجل الدنيوي الشهوان إذا أقبل عليه رمضان تاب وتطهر، فلا يفتح فمه لهجر، ولا عينه تفحش، ولا أذنه للغو ولا قلبه لخطيئة، يقضي يومه مضطربًا في المعاش على أفضل ما يكون الخلق، فإذا كان تاجرًا لا يدلس، أو صانعًا لا يزور، أو عاملًا لا يفرط، أو معاملًا لا يخون. ويحيى ليله في استماع القرآن ومواصلة الإخوان وموادة ذوي القربى؛ فإذا ما انقضى بعض الشهر بدا عليه شحوب الصوم وذبول الصلاة وكلال السهر وخشوع الورع. فلو كنت حاضرًا ذلك العهد لرأيت رمضان عيدًا قوميًا ودينيًا يؤكد أسباب القرب بين الله وعباده، ويوثق عرى الحب بين الشعب وأفراده.


ذلك عهدنا برمضان الأمس، أما رمضان اليوم فبحسبك أن أصف لك حياة من حيوات القاهرة فيه، وتستطيع أنت أن تصور لنفسك الطور العجيب الذي آل إليه شهر القرآن والعبادة، هي أسرة لا أقول إنها مثال لكل الأسر؛ ولكنها استجابت لنوازع التجديد الأبله، لا بد للأسرة أن تصوم؛ ذلك حكم النشأة وسلطان العادة فهذه تقترح، وتلك تعترض، وهذا يطلب لونًا، وذلك يطلب آخر، والباشا يدير هذا الجدل إدارة موفقة فيعدل أو يكمل أو يؤجل حتى ينتهي النقاش بثبت حافل بالمشهيات والمقليات والمشويات والمحشوات والفطائر لا تجد بعضه في مطعم كبير.

يتغير هذا الثبت كل يوم فيطول أو يقصر، ولكن لونين فيه لا ينالهما تغير ولا يمسهما نقص: لون من الأرانب مطبوخة في النبيذ يحبه الباشا، ولون من الشرائح الوردية مطعمة بخصوص من شحم الخنزير تحبه الآنسة الكبرى سين!

ها هو ذا الباشا البطين يتذبذب وليدًا بين المطبخ والمائدة كأنه رقاص الساعة؛ في يده مسبحته الكهرمان الصغيرة يهش بها على الطهاة والخدم، وشفتاه تختلجان من غير كلام وعيناه تتحركان من غير نظر، حتى إذا دنا المغرب خفت حركته واحتد نشاطه فأقبل على المائدة ينسق الآنية، وينضد الأكواب، ويسكب أمام كل آكل الشراب الذي تعوده؛ فهنا قمر الدين، وهنا منقوع التين، وهنا الكينا، وهناك الفرمود، وهنالك إقيان، وأمامه هو شراب صحي فاخر من صيدلية (يني)؛ ثم يدمج الخوان المحملي بنوافل المائدة من السلطات والكوامخ، ويرتب الألوان مع النادل على أصول مقررة في الفن؛ ثم يسرح بعد ذلك بصره في السماط المكتظ فيرتد إليه ملآنًا بالرضا والعجب؛ فيخرج إلى الردهة، ومن الردهة إلى الشرفة، فيلقي النظرة الأخيرة على الشمس الغاربة، ثم يعود فيرى الأسرة بجنسيها لم تفرغ بعد من إعداد الأهب للسهرة الراقصة، فالحلل تنتقى، والحلي تختار، والشعور ترجل وتموج، والأظفار تدرم وتصبغ، والحواجب تدقق وتخطط، والخطوات واللفتات والبسمات تتكرر أمام المرايا لتراض وتتقن، حتى إذا انطلق مدفع الإفطار من الراديو أهرعوا إلى المائدة إهراع جنود الإطفاء إلى السيارة؛ ثم يجلس الباشا بين بنيه ويضع المسبحة المعلومة مكان القدح المجهول، ثم يرفعه إلى فيه وهو يقول: «اللهم لك صمت، وعلى رزقك أفطرت، وبك آمنت، وعليك توكلت».. ثم يقبلون على هذه الآكال وهذه الأشربة إقبال الشره الفاره! فلو رأيتهم حسبتهم صاموا العام كله ليفطروا في رمضان.

1937*

* كاتب ودبلوماسي مصري «1915-1993»