كان الموجه الديني من أقوى المؤثرات في نشأة وتطور كلٍ من: الفقه عند العرب والفلسفة عند اليونانيين. ونحن دائمًا ما نركز على مسألة التفريق بين الفقه العربي والفلسفة اليونانية، فالفقه هو نتاج الشعوب العربية الإسلامية في فهم وتأويل معتقداتهم، بينما الفلسفة هي نتاج الشعوب اليونانية والمسيحية بعد ذلك لفهم وتأويل معتقداتهم. والعرب قديمًا يستعملون كلمة «الفلسفة» لتكون دالة على التراث اليوناني وتحديدًا في مجال العقائد الدينية، ولم يصفوا إطلاقًا أنفسهم بالفلاسفة أو يطلقوا على نتاجهم الفكري وصف «الفلسفة». الدافع والموجه واحد عند العرب واليونان مع اختلاف المرجعية. فنحن أمام ثقافتين مختلفتين، ذات معتقدات دينية ومرجعيات مختلفة، حتى وإن كانت هناك بعض أوجه الشبه البسيطة والسطحية، ولكن لا يمكن تعميمها وجعلها مشتركات إنسانية يمكن فرضها على بقية الثقافات والمجتمعات.

نريد أن نصنع مقارنة بين الفقهاء والفلاسفة في الجانب اللغوي، وكيف تعاملوا معها وقاموا بتحليلها، كون اللغة أداة رئيسة في التأويل لأي نص، سواء كان نصًا دينيًا مقدسًا أو أدبيًا إبداعيًا. ودون التحليل الدقيق للسان البشري فإن الفكر سيقل تنظيمه وتكثر شكوكه وتزداد هفواته وحيرته، ونتيجة لذلك ستكثر الأساطير والخرافات والاختراعات البشرية في المسائل العقدية. فالدراسة المنظمة للغة ستقود نحو الدراسة المنظمة للمعتقدات الدينية والشرائع السماوية، وبالتالي تأويلها وتفسيرها بصورة أكثر دقة.

والشعوب اليونانية كانت تحمل ذات الهم الديني والرغبة الملحة في فهم التأويل الصحيح لكتبهم المقدسة.


في كتاب «نظرية التأويل من أفلاطون إلى غادامر» يقول عادل مصطفى في توضيحه لمعنى كلمة هرمنيوطيقا: «كلمة هرمنيوطيقا في الفكر اليوناني تعود إلى الإله (هرمس) رسول آلهة الأولمب الذي كان بحكم وظيفته يتقن لغة الآلهة، ويفهم ما يجول بخاطر هذه الكائنات الخالدة ثم يترجم مقاصدها وينقلها إلى أهل الفناء من بني البشر». وكما يتضح لدينا هنا، أن الخرافة كانت حاضرة عند الشعوب اليونانية في جانب التأويل للنصوص المقدسة، فقد كان تأويلهم لها ذا طابع طقسي باطني لا يرتقي للممارسة المنهجية الحقيقية. انتقل مصطلح «هرمنيوطيقا» للشعوب الأوروبية باعتباره تعبيرًا عن مجمل الدراسات والنظريات التي تصب في محاولة تفسير ودراسة النصوص المقدسة واللاهوت وفقه اللغة.

نلاحظ أن تعاطي الفقهاء مع اللسان البشري كان أكثر منهجية وأعلى دقة، انعكس ذلك على بقية أنشطة الفكر كالنقد الأدبي والتفسير ودراسة الحديث والمعجم.

ولو أخذنا كتاب «شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك» على سبيل المثال لا الحصر، فعند اطلاعك على الكتاب اطلاعًا معمقًا ستذهل من التحليل الدقيق والمتعمق للسان العربي، فقد كان كتاب ابن عقيل خلاصة لمجهودات الفقهاء النحويين عبر عقود طويلة من الزمن. فدقة التحليل والتشريح لكل تفاصيل اللسان العربي لا وجود لها في أي ثقافة أخرى. فالمنهجية الصارمة في تحليل اللغة العربية ودراستها كانت نتيجة طبيعية للتنظيم في الفكر الذي نجده لدى المفسرين والمحدثين والمعجميين، وحتى عند نقاد الشعر والأدب في ذاك العصر. وهذا ما وقف حاجزًا منيعًا ضد تسرب أي معتقدات دينية لأي ثقافة أجنبية، فقد كان الفقهاء، فضلًا على تعمقهم في دراسة شرائعهم السماوية، كانوا على اطلاع واسع على بقية ثقافات الشعوب لذلك استطاعوا أن يضعوا حدودًا فاصلة بين لغتهم ومعتقداتهم وبين لغات ومعتقدات الشعوب الأخرى.

في دراسة اللغة باعتبارها الأداة الرئيسة لتفسير النصوص وتأويلها وفهمها كان الفقهاء أكثر منهجية ودقة من الفلاسفة، وبالتالي أكثر تنظيمًا فكريًا وأكثر عقلانية في التعاطي مع النصوص، فالأساطير والخرافات متجذرة في الأطروحات الفلسفية بكثرة، حتى وإن كان ظاهرها العقلانية والعلمية.

نجح الفقهاء في وضع خطة طويلة المدى للحفاظ على النصوص والروايات والأخبار من خلال الحفاظ على ثقافتها الأصلية ،جعلها تسير في مسار زمني طويل دون أن تتعرض للتحريف أو التأويل الاعتباطي، وهذا ما فشل فيه الفلاسفة عمليًا، عبر العصور المتتالية لتاريخ الفلسفة.