فماذا عن موضع تراثنا فينا، في العصر الحديث؟ بدأ التفاتنا إلى التراث ـ بعد ضيعة طالت - مع بوادر حركة اليقظة في القرن الماضي، حيث أدرك روادها أن ارتباط اليقظة بجديد الغرب وحده، يسلبها عنصر الأصالة - مناط صحتها وسلامتها - في الوقت الذى قدروا فيه حاجتنا إلى روافد من المدنية الغربية الحديثة، يساير بها تيار اليقظة روح العصر. ولم تنفصل حركة إحياء التراث عن حركة اليقظة القومية، بل كانت عنصرًا جوهريًا في برنامجها، وموقعًا من مواقع النضال التي تقاسمها الرواد فيما بينهم.
وفي كل مجال كان الاهتمام البالغ باستقراء ماضي تاريخنا، يعطينا تجاربه، ويصل ما انقطع من مسيرتنا الحضارية.
ومن واقع تاريخ اليقظة، نرى أن مهمة البحث عن جذور أصالتنا وإحياء تراثنا، لم يحمل تكاليفها الأمسيون الذين يعيشون بعقلية الماضي، بل نهض بها عصريون مجددون ممن اتصلوا بالغرب الحديث ونهلوا من موارد ثقافته: «الشيخ رفاعة الطهطاوى إمام البعثة التعليمية إلى باريس في عصر محمد علي، نقل إلينا ما نقل من ثقافة الغرب الحديث ومدنيته، وحرص في الوقت نفسه على جمع ما استطاع من ذخائر من تراثنا، عمرت بها خزانته في «سوهاج» من صعيد مصر الأعلى. وهو الإمام الشيخ محمد عبده «تلميذ الأفغاني وصاحبه، حملته الأوضاع السياسية على النزوح إلى أوروبا، فتابع جهاده الوطني هناك، وعكف كذلك على تدبر القرآن الكريم، يلتمس منه في تفسيره أصول الدعوة إلى تحرير الفكر الديني من الشوائب الدخيلة ويجاهد لإصلاح المجتمع بالدين. وهو الذي وجه (مطبعة بولاق الأميرية) إلى طبع ذخائر أمهات من تراث العربية والإسلام. وشيخ العروبة «أحمد زكي» عاد من أوروبا مزودًا بالثقافة الغربية الحديثة، ثم لم يلبث أن قام برحلات متتابعة إلى أوروبا باحثًا عن كنوز تراثنا، وناقلًا إلينا منها ما عمرت به مكتبته الزكية التي وهبها دار الكتب المصرية. والعلامة «أحمد تيمور» العصري الثقافة والنشأة في جيله، أنفق ماله بسخاء على ذخائر المخطوطات العربية، وكان همه الشاغل اقتناء نوادرها ومطالعتها وفهرستها، فترك منها لأمته خزانته التيمورية الغنية والأمير شكيب أرسلان، تابع من منفاه في أوروبا، جهاده في الموقعين السياسي والفكري، لم ينفصل أحدهما عن الآخر في وعيه وفي كتاباته، ومجالسه التي كانت مركز تعبئة فكرية لشباب جيله. و«عبدالرحمن الكواكبي» جعل من (أم القرى) منبرًا للدعوة إلى الاستقلال الفكري والأصالة الإسلامية العربية، والشيخ البشير الإبراهيمي، واصل بقلمه، في مقامه بمصر، النضال المشهود لجمعية علماء الإسلام بالجزائر في معركة التحرير موصولة بماضيها الإسلامي، وشخصيتها التي تعرضت لذرائع الاستلاب. و«الرئيس علال الفاسي» في مهاجره بالقاهرة، زود حركة استقلال المغرب بعناصر من الفكر الأصيل ووعى الذات، وكان منزله دارا لصفوة من الشباب المغاربة الطلاب بالجامعة المصرية، يرعاهم ويوجههم ويجندهم لمعركة الأصالة.
وحمل «شوقي» أمير الشعراء، اللواء من بعد محمود سامي البارودي، الذي انضم إلى كتيبة رواد اليقظة. مجددا للشعر العربي بأصيل منابعه في عصور الازدهار. فمضى به شوقي إلى القمة، في هذه المرحلة، بجديد راسخ الأصالة، ينبض بروح العصر ويعبر عن وجدان أمته، لا يدين لغيرها بولاء، وهو الذي تعلم في أوروبا وتزود بثقافتها الحديثة.
لم تكن حركة إحياء التراث إذن والدعوة إلى الاتصال بماضينا، صخرة رجعية ألقى بها الأمسيون في مجرى تيار اليقظة، بل كانت بشهادة الواقع التاريخي مددًا سخيًا لهذا التيار أراد به الرواد والمجددون تعميق مجراه وتطهيره من شوائب الاغتراب، وتأمين حيويته وسلامته، بصدوره عن نبع أصيل في أرضنا الطيبة، ومقاومة ذرائع الغزو الفكري التي أرادت أن تبترنا من جذورنا، وتسلبنا وعينا لذاتنا، وتشوه شخصيتنا بالاستلاب والطمس وبفضل أولئك الرواد، شهدت المرحلة التي أعقبت الثورة العرابية، حركة إحياء للتراث ذات اتجاهين:
الأول نشر ذخائر المخطوطات مما بقى لنا من كنوزه الضائعة، وما حمل أعلام الجيل من مصورات لمخطوطات في أوروبا، والاتجاه الثاني، إمداد حياة الأمة، في مختلف نواحيها، بزاد سخی من ميراث عصور القوة والازدهار وعطاء الحضارة الإسلامية في دورها القيادى الرائد، في العصر الوسيط.
ونقدر أن جهود الرواد في إحياء التراث لم تستوعب إلا أقل القليل مما في خزائن الدنيا، بل لم نحط علما بما بقى منه،.. لا في خزائن الغرب وتركيا والهند والأندلس والأقطار الإسلامية التي ضمتها روسيا إلى الاتحاد السوفيتي، وكانت حواضر علمية كبرى فحسب، بل لم تحط علمًا كذلك بما لدينا من ذخائره، في غيابات الخزائن المجهولة والخاصة، بالمشرق والمغرب.
ومضى جيل الرواد وترك هذه الأمانة في أعناقنا، نفى بها على المستوى الذي ينبغي لنا من نضج الوعى وتقدم الزمن بنا، وعلمنا بما بذل المستشرقون وما يزالون من عناية بهذا التراث.
وانطلقت حركة اليقظة تغذ السير مع الحديث، وفي الميدان خلف للرواد من علماء العربية والإسلام، تابعوا خدمة تراثنا، في رعاية هيئات علمية كبرى كدار الكتب المصرية، والمجمع العلمي بدمشق وبغداد.. فنشرت مئات من أمهات الكتب في اللغة والأدب والتفسير وتاريخ الإسلام. وأخرجت مطبعة فاس ومطابع القاهرة مجموعة «المولى حفيظ سلطان المغرب»، من كتب السيرة والتاريخ والأدب، على نفقته، وشارك معهد تطوان في حركة إحياء التراث بنشر ذخائر من تراث العلماء المغاربة وكان لدائرة المعارف العثمانية بحيدر أباد الدكن، نشاط مرموق وفضل مشهود في نشر ذخائر جليلة من تراث الإسلام، خاصة كتب الحديث الأمهات، وعلومه ورجاله، فكانت الهند بها دار حديث. ويمكن القول بأن حركة إحياء التراث التي أعقبت فجر اليقظة وامتدت الى منتصف القرن الحالي، سايرت الوضع العام للمرحلة تلبي حاجتها وتعانى من أزماتها. والمرحلة يعرفها تاريخ الأمة، مرحلة تعبئة القوى واحتشاد لمعركة التحرير على الساحة الكبرى للعالم الإسلامي مشرقه ومغربه. ويعرف كذلك ما تعرضت له من هزات القلق تحاول التماس طريق للخلاص من نوازل الوقت ورواسب الاحتلال والتخلف، وما عصف بها من تيارات متدافعه تأتيها من داخل ومن خارج، وتضغطها بين شد وجذب.
وإذا كان استمرار بقية من الجهود لإحياء التراث الجائح وهي: وعى وتأصيل المنهج العلمى لتوثيقه وتحقيقه معبرًا عن الأمة ونضالها عن أصالتها، فكذلك كان ترك مجال التراث مستباحًا لغير أهله، والغفلة عن تسرب نوادر من ذخائره إلى الخارج، مظهرًا لما أعوز المرحلة من وضوح الرؤية لموقع الوجود الحيوى للامة فتركنا مخطوطات تراثنا بضاعة مبذولة لتجار السوق يهدرون مالها من حرمة وقيمة بطبعات سوقية شائهة وتركنا الأجانب يجوسون خلال الديار بحثًا عن مخطوطات يخرجون بها إلى بلادهم على مرأى منا ومسمع، ولم تتصور أن هذه المخطوطات تدخل في (الآثار) التى يحميها القانون ويعطى (الجمارك) حق مصادرة قطعة من نسيج أثرى أو آنية قديمة، ولا تصادر عشرات من مخطوطات مع أى أجنبي يخرج بها من بلادنا
وكأن مناط الأثرية في مثل حجر رشيد ومسلة حمورابي، مادتهما الحجرية دون النصوص المدونة عليهما: وكأن المخطوط ليس أثرًا، لا بنص فحسب، بل بورقة أيضًا ومداده وخطه وغلافه من حيث هي مواد لتاريخ عصره وبيئته.
1985
كاتبة وأكاديمية مصرية
(1913 - 1998)