ومع هذا لم يكن إقبال بالفيلسوف الكلاسيكي أي صاحب النسق الفلسفي ولم يدع هذا قط، لكن كانت له مقدرة على أن يصوغ الأفكار في سياق فلسفي أصيل.
بقي على العرب أن يبحثوا في تاريخ فلسفتهم الخاصة وهذا لم يقع بصفة جدية قبل الستينات، وبعد الستينات، نلاحظ بروز عدد من الكتب ذات القيمة حول التراث الفلسفي منها:
- کتاب محسن مهدي حول فلسفة ابن خلدون السياسية.
- كتاب ناصيف نصار حول فلسفة ابن خلدون واسمه «الفكر الواقعي عند ابن خلدون».
- كتاب محمد أركون حول فلسفة ابن مسكويه.
وتنقصنا الآن دراسات جدية للتراث الميتافيزيقي العربي الإسلامي (ابن سينا وابن رشد). وحول نشأة وتطور الفلسفة عند العرب، وهنا لا بد من ذكر كتاب طيب التيزيني «مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط»،(دمشق 1971)، هذا الكتاب ينم عن مقدرة صاحبه الفلسفية الجيدة، لكنه يبرز أيضًا ما يمكن أن نسميه بإجهاض مشروع لتاريخ الفلسفة. ذلك أن صاحبه يتيه في فلك الماركسية المبتذلة التي يريد أن يفسر على صوتها كل شيء، ويفسر كذلك هويته أكثر من هذا في مقدمته التاريخية العامة والإسلامية التي شوهت الكتاب تمامًا.
وهذا القول ينطبق أيضًا -ولو بدرجة أقل بكثير- على تطور محمد أركون وناصيف نصار -كلاهما أقحم نفسه في فلسفة الدين وفي الفكر العربي العام لترويج نظرة ايديولوجية- أما كتابات الجابري (مثلًا نحن والتراث) فمستواها جيد ولكن تغلب عليها الأيديولوجيا الباريسية أي فكرة القطيعة الابستمولوجية.
كل هؤلاء المفكرين انحازوا من تاريخ الفلسفة إلى فلسفة الثقافة، أي أنهم دخلوا في صراعات الضمير العربي حول تأويل التراث والدين وإشكالية الشرق والغرب. وكل هذا يؤسس لب التفكير الفلسفي العربي.
أقول إذن بوجود فكر فلسفي - أيديولوجي عربي خصوصيته في كونه يتمحور حول مشاكل ذاتية تتردد بكثرة.
هذا النسيج من الإشكاليات السياسية - الحضارية - الثقافية يمثل إسهامًا مهمًا لكن بقي عليه أن يتجاوز الأفق العربي - الإسلامي، وأن يدخل نطاق التنظير العام.
هذه الإشكاليات نجدها في صلب المجتمع، في خطاب السياسي كما في خطاب الصحفي، لكنها لا تأخذ بعدها الفلسفي النظري إلا عند القليل ولنذكر من جملة هذه المجهودات كتب: عبدالله العروي والجابري واركون ونصار والتيزيني في كتاباتهم العامة.
في مجال التفكير الاقتصادي يمكن أن نعتبر سعيد حمادة رائد الدراسات الاقتصادية في العالم العربي بفضل كتابه «النظام الاقتصادي في سوريا ولبنان» 1936، وبفضل تدريسه أيضًا بالجامعة الأمريكية في بيروت ثم أتت فترة بعد الحرب العالمية الثانية سجل فيها علم الاقتصاد تقدمًا لا بأس به في كل من لبنان وسوريا والعراق.
في هذه الفترة، برزت دراسات، كما أنشئت مؤسسات من الأسماء تذكر جبرائيل منسي وأمين الحافظ ود. زلزلة ود. خير.
حتى حدود الستينات ظل علم الاقتصاد العربي وصفيًا وفي أفضل الأحيان تحليليًا تطبيقيًا، ويقترب من الجغرافيا الاقتصادية أكثر مما يحاكي علم الاقتصاد البحت.
لكن مع هذا، نجد الدراسات الجيدة عن الدخل والزراعة والصناعة. والفكرة التي طغت على البحوث الاقتصادية في العشرين سنة الأخيرة هي بالطبع فكرة النمو أو الإنماء وتحت لوائها قامت الدراسات الشخصية أو الجماعية (في الندوات) بحيث تحول علم الاقتصاد العربي إلى بحث لا نهائي حول إمكانيات التنمية. وبما أن عملية التنمية تستقطب العديد من القطاعات، فإن البحوث انصبت أيضًا على ما هو ديموغرافي واجتماعي، وسياسي اعتمادًا على فكرة شمولية الإنماء، ولا بد أن نلحظ في هذا الصدد أن ارتفاع سعر النفط في سنة 1973 أثر على أفق هذه الدراسات وفتح إمكانيات للرؤية المستقبلية.
هذا وما زالت الدراسات الاقتصادية لم ترق إلى مستوى التنظير العام وتتمحور حول فكرة التخطيط وهي تتأرجح بين الأفق القطري والأفق العربي العام.
وقليلًا ما نجد كتبًا خامة كتبها أفراد باستثناء البعض، وتبقى أغلب المصادر منبثقة عن الجامعة العربية أو عن المؤسسات القطرية (مثلا: المعهد العربي للتخطيط) أو عن مركز دراسات الوحدة العربية، بحيث لا يظهر من أول وهلة أن إنتاج الجامعات له وزن كبير في الميدان خلافًا للفترة السابقة، أما المقالات فهي عامة وتتناول مشاكل مستقبلية وهي في عددها أقل بكثير من المقالات المحررة من طرف الأجانب.
1956*
* كاتب وباحث أكاديمي تونسي «1935 - 2021»