آن لنا أن ندرك أن تكوين الشباب لا يمكن أن يتم بالمواد الدراسية، وإنما هو خلق ملكات الملاحظة والذوق في نفوس الشباب

من تذوق الفن فقد تذوق الحياة؛ لأن الفن كما قلت ذات مرة هو إحدى وسائلنا الآدمية في قنص بعض سر الحياة وإظهاره للفكر والقلب، ولست أتصور رجلا يستطيع أن يمد يدًا لكشف النقاب عن وجه الحياة دون أن يكون قد قطف زهرة من حديقة الفن، فالفن هو الثقافة العليا التي تتصل مباشرة بخير ملكات الإنسان، وهو بعد شيء يزرع في النفس منذ الصغر، فمن علت به السن دون أن تلقى في نفسه البذور فقد أقفر قلبه وفكره وأضحى في الحياة رجلا لا يصلح لشيء كبير.

فإذا أردت اليوم أن أوجه نصحي إلى الشباب فلا أقول لهم إلا هذا: «حاولوا في سنكم هذه أن تفهموا الفن وأن تتذوقوه، فإن الحياة لا تلبث أن تبدو لكم واضحة الجبين»، وإني أرجو للتعليم في مصر والشرق أن يسير في هذا السبيل شوطًا أبعد مما سار.


فقد آن لنا أن ندرك أن تكوين الشباب لا يمكن أن يتم بتحصيل بعض المواد الدراسية تستظهر لتأدية الامتحان، وإنما هو قبل هذا وبعده خلق ملكات الملاحظة والذوق والتقدير في نفوس الشباب، ملكات ترى وتلمس في آثار الفن المختلفة، من ملكها ضمن ألا يسير في الحياة أعمى، وعندى أن التعليم الموسيقى الذي أدخلته وزارة المعارف في مدارسها وتنظيم حياة المدرسية على النحو الذي تريده الوزارة اليوم وتسعى إلى تحقيقه بخطى ثابتة، من خير الوسائل التى ستؤدى حتمًا إلى إيجاد شباب مستنير.

على أن المدرسة لا تكفى وحدها للقيام بهذه المهمة وكان ينبغي للبيت أن يتحمل قسطه من العمل، وهو من غير شك القسط الأوفر، فإن البيت في أووربا هو الجناح الذي ينمو في دفئه قلب الطفل، فهو منذ اليوم الأول الذي يستقبل النور فيه لا ينام إلا على غناء جميل، وما يمضى قليل حتى تقوده أمه في عربة صغيرة إلى الحدائق، فلا يقع نظره الهادئ اللاواعي في غير وعى ولا إدراك إلا على الطبيعة الجميلة، بسمائها وجنانها وجداولها، وما يكاد يعى ويدرك بعض الإدراك حتى توضع في يديه كتب لا كتابة فيها ولا كلام، بل صور جميلة ملونة للحيوانات والطيور والمخلوقات والطبيعة في مظاهرها الوضاءة الساحرة، فيحس جمال الرسم قبل أن يفقه معنى كلمة «الرسم»، ويطرب لتناسق النغم قبل أن يعرف ما هو الغناء، ويشعر بتناسب الأوضاع وتجاوب الألوان فيما يحيط به من مظاهر الخليقة، ولما يعلم الكلمات والألفاظ التي يعبر بها عن كل هذه المشاعر، فهو قد أدرك عن طريق الإحساس، فلا ينقصه بعدئذ إلا إدراكه عن طريق العقل والمنطق وهو عمل المدرسة والكتب.

على أن مجرد الشعور بوجود الجمال في المخلوقات والأشياء طفرة كبرى فى التكوين الروحي للطفل، فما الجمال إلا المظهر الخارجي والثوب البادى للنواميس العليا، ففى إدراك وجوده إدراك خفى مبهم! تلك القوانين التي تنظم الوجود، وهذا الإدراك للجمال هو كل شرف الإنسان وفضله، وهو وحده الذي يميز الإنسان عن سائر الحيوان، فلو شعرت الحيوانات يومًا بالجمال لما لبثت حيوانات دقيقة واحدة، تلك كلمنى للشباب القيها في مطلع الربيع على أن تصيب من أنفسهم أرضًا صالحة في مطلع ربيعهم.

1936*

* كاتب وأديب مصري «1898 - 1987»