يحفر (أرنست فيشر) عميقًا في التاريخ البشري، وهو يفتش باحثًا عن جذور الرسم والنحت، والموسيقى والرواية والشعر، ليؤكد (ضرورة الفن) وأهمية رتباطه بحياة الإنسان، بدءا بالآثار المصرية، فالحثية، مرورًا بأرسطو طاليس ويوربيدس، وجيوتو، وشكسبير وبيتهوفن وموزارت وتولستوي، وسواهم.

عبر خمسة فصول، قارب فيشر (وظيفة الفن، البدايات الأولى للفن، الفن والرأسمالية، المضمون والشكل، ضياع الحقيقة واكتشافها)، وهي المحاور التي شكلت محاولة الكتاب للإجابة عن اسئلة الفن.

عالم أكثر وضوحًا

بحسب فيشر الفن كان ولم يزل، وسيبقى دائمًا ضروريًا، قائلا: (ينبغي لنا، بادئ بدء، أن ندرك أننا ميالون إلى اعتبار الظاهرة المذهلة على أنها طبيعية تمامًا، وهذه الظاهرة هي في الحقيقة مذهلة، ثمة ملايين من الناس لا تحصى، تقرأ كتبًا، وتسمع موسيقى وترتاد المسرح والسينما. لماذا؟

إن القول بأن جميعهم يبحثون عن التسلية، أو الراحة أو اللهو هو موضوع بحاجة إلى إثبات. ولماذا يكون تصرفهم ضربًا من متعة، فالواضح أن الإنسان بحاجة إلى أن يكون أكثر مما هو، فهو بحاجة إلى أن يكون إنسانًا كليًا. وهو لا يكتفي بأن يكون فردًا منعزلا، وهو من خلال سأمه الذي يشكل الطابع الجزئي لحياته الفردية، يطمح في الخروج إلى كلية يرجوها ويتطلبها، إلى كلية حياة تقف فرديته بكل حدودها حائلًا، دونها، ويسعى إلى عالم أكثر وضوحًا وعدلًا).

مجرد بديل للحياة

(الشعر ضرورة.. وآه أعرف لماذا.. وآه لو أعرف لماذا) بهذه العبارة الرقيقة عبر جان كوكتو عن ضرورة الفن، وعبر في الوقت نفسه عن الحيرة إزاء دور الفن في العالم. لكن هناك رأيًا آخر، عبر عنه المصور موندريان، يرى أن الفن يمكن أن يختفى، وأن الواقع سوف يحل بالتدريج محل الفن، اذ لم يكن الفن في جوهره إلا تعويضًا عن انعدام التوازن في الواقع الراهن. وقال: «إن الفن سيختفى عندما تصل الحياة الى درجة أعلى من التوازن».


ويعلق فيشر (هو بهذا يرى فى الفن بديلا للحياة، ووسيلة لإيجاد التوازن بين الإنسان والعالم الذي يعيش فيه. وهى فكرة تحوى اعترافًا جزئيًا بطبيعة الفن وضرورته. ولكن وجود التوازن الدائم بين الإنسان وعالمه أمر مستبعد حتى فى أرقى أشكال المجتمع، ومن هنا نستطيع أن نستنتج من هذا الرأى، أن الفن سيكون ضرورة في المستقبل كما كان في الماضي. غير أننا ينبغي أن نسأل: هل الفن مجرد بديل للحياة؟ ألا يعبر أيضًا عن علاقة أشد عمقًا بين الإنسان والعالم؟ بل هل يمكن أصلا تلخيص وظيفة الفن في عبارة واحدة؟

ألا يشبع الفن مجموعة واسعة ومتنوعة من حاجات الإنسان؟ وحتى لو استطعنا أن نحدد الوظيفة الأصلية للفن - بدراستنا لنشأته - فهل نستطيع أن نقول إن تلك الوظيفة لم تتغير مع تغير المجتمع؟ ألم تنشأ للفن وظائف جديدة؟

فهم القواعد

يتناول فيشر في ثنايا كتابه معايير الفن والفنان ذاهبًا إلى أنه (لا بد للفنان، حتى يكون فنانًا، أن يملك التجربة، ويتحكم فيها، ويحولها إلى ذكرى، ثم يحول الذكرى إلى تعبير، أو يحول المادة إلى شكل. فليس الانفعال كل شيء بالنسبة للفنان، بل لا بد له أن يعرف حرفته ويجد متعة فيها. ينبغى أن يفهم القواعد والأشكال والخدع والأساليب التي يمكن بها ترويض الطبيعة المتمردة وإخضاعها لسلطان الفن. أن الأشواق التي تحرق الفنان السطحى تخدم الفنان الحق: فهو لا يقع فريسة للوحش بل ينجح في ترويضه).

تطهير الانفعالات

يرى فيشر أن (من صفات الفن أنه يحمل في أعماقه التوتر والتناقض لا يصدر فقط عن معاناة قوية للواقع، بل لا بد له أيضًا من عمليــة تركيب، لا بد له من اكتساب شكل موضوعی). لقد قال أرسطو - الذي كثيرًا ما أساء استخدام كلماته أن وظيفة الدراما هي تطهير الانفعالات، والتغلب على الخوف والشفقة، بحيث يتمكن المتفرج الذي يطابق بين شخصه وبين أورست أو أوديب من التحرر من تلك المطابقة، ويتسامي فوق صروف القدر العمياء، وبذلك يلقى عن كاهله مؤقتًا قيود الحياة وأعباءها. أن أسر، الفن مختلف عن أسر الواقع، وهذا الأسر المؤقت الرقيق هو مصدر المتعة، هو مصدر الغبطة التي نشعر بها حتى ونحن نشهد عملًا مأساويًا.

إرنست أوتو فيشر

« 1918 - 2007» كيميائي ألماني

حاصل على جائزة نوبل في الكيمياء سنة 1973

ولد لأب فيزيائي يعمل في جامعة ميونخ

عمل في معهد الكيمياء اللاعضوية

حصل على الدكتوراة سنة 1952

ذهب سنة 1971 أستاذ زائر في جامعة فلوريدا

أستاذ بمعهد تكنولوجيا ماساتشوستس 1973