وأنا بدوري -هنا- أستعيدُ سؤالًا قديما -خرجَ من قلبِ أوروبا- هو «هل تستطيع الصينُ أن تتقدَّم وتتحضَّر بمفردها؟»، وذلك لبيانِ التحيَّزات (الماضَويّة)، لأيِّ تفكيك؛ فحين يُؤمِنُ الشخصُ بأنَّ المعالجَ النفسيّ أو الراقي، يَعرف حقيقتَه أكثر منه، يَصنعُ سلطةً ذاتيّةً يُسيطَر بها على إشكالات هذا الشخص، وتَسْييرِها إلى حيثُ يريد.
في هذا السياق يتموضع الخطابُ الإسلاميُّ، الذي لم يكن إلا مريضًا بين يدي مُعالِجه العارف حقيقتَه، لهذا فإنَّ كثيرًا من مُفكِّري هذه الجغرافيا؛ وظيفتُهم إعداد طبقٍ في مطبخٍ قيد الإنشاء، لا يعرفون عنه إلا بقدرِ ما يُنجِز منه صانِعُه. أما مَن يُفكِّر مع المعالِج فحالتُه تجعله يُحارب استبدادَ المعالِج -حين يستبد- بالحججِ المشتركة بينهما، وباستحضارِ تاريخ المكان. لهذا يُمكن الاستئناس بمحاولة مثقفين هنديين في الثمانينيات الميلادية لكتابةِ تاريخِ الهندِ من وجهةِ نظرِ الشعبِ لا النُخبة، وأيضًا تأمل ثوراتِ الفلاحين ضد الاحتلالِ الاستعماري، وتقييده بوصفِه تاريخًا أصيلًا للهندِ؛ وذلك للتخلّص من فكر المتبوع. وحينَ استقلَّت الدولُ، شاعَ في أمريكا، مفهوم الفكرِ الاستقلالي، ويُراد منه دراسة الآليات التي تُصاغ بها الخطابات بعد انهيار الاستعمار، هل نمط المعرفة واحد، أم ثمة أنماط هامشية تأتي كنقدٍ للحداثةِ في الوعي الأوروبي والأمريكي؟ وما نتيجة هذه الأنماط وحقيقتها؟.
فإذا كانَ أحدُ تعريفات الفكر الاستقلالي هو القوة التي لا تُدار عن طريقِ منطقِ الاستعمار، فإنه يستلزم فهمًا مغايرًا، ولكن بأيِّ شكل؟، فهل (القاعدة) و(داعش) و(الحركة الإسلامية لتركستان الشرقية) مثلا، نتيجة لهذا الفكر الاستقلالي؟ أم نتيجة لآثار الفكرِ الاستعماري؟ وأعني هل كَوَّنت فكرًا مستقًلا مُتصلًا بما قبل الاستعمار؟ أم هي واقعة تحت تأثير الهيمنة الاستعمارية، تُفكِّر كما يريد المستعمِر حين تأملَ -فِكرَ ما بعد الاستعمار، وسارع في وضع نتائجه، ومن ثَمَّ خدمتها التي تجعل من التاريخ غربيًا بوجه آخر. ولهذا يأتي سؤالٌ مكرر -من قِبل العامّة- في مواجهةِ أفعال القاعدة وداعش وغيرهما هو: لماذا يحاربون المسلمين المختلفين عنهم، ويتركون الصهاينة؟.
منشأ هذا السؤال هو الشعور بأنَّ ثمةَ مَن يَفعل بهم أفعالَ المستعمِر القديم؟ وفي مقابل هذه الحركات الإسلامية، يأتي خطابٌ آخر ليستعيدَ تاريخَ المسلمين ولكن بعينٍ أكاديمية غربية، فيخرج بنتائج مستلبة، لم يقتنع بها تاريخُ المكانِ بوصفه مستقلا. ومن رحم هذين الخطابين تتعدد العلاقات، تعلو وتهبط في مستوى تمثّلاتها، لكنها تعودُ إلى فكرٍ يَخُون المكانَ وصوتَه.
ومِن هنا لا بدَّ لنا من عودةٍ إلى ما قبلَ الاستعمارِ، واستعادة مفهوم الهيمنةِ القديم، والذهاب إلى نقطةٍ بعيدة -استثنائيّة- وصلها المسلمون، وهي الصين، لنشيرَ إلى أنَّ السجنَ الفكري للتاريخِ لم يكن واردًا في الأذهان، فضلًا عن صعوبةِ تطبيقه آنذاك، ومن ثمَّ فإنَّ ذكرنا لها هو صورة لفكرٍ لا نريدُ أن نُوصِله بما بعد الاستعمار، بل -كما يقول فوكو- لإيضاح أنَّ الإنسانَ المُتحدَّث عنه قديما هو متّصل بالمطلق بطريقٍ ما، أي هو متناهٍ ومتصل باللامتناهي، ولكن بعد تفكيك الأسس (الأنطو-ثيولوجيا) صار الاتصالُ بالمطلقِ ممتنعًا؛ لذا فالإنسان المُتحدَّث عنه -الآن- متناهٍ فحسب.
تذكر المصادرُ التاريخيّة أنَّ الثورةَ التي قادها (آن لوشان) -في القرن 8م- شكّلت فرصةً ثمينةً لتوطينِ العربِ والمسلمين في الصين؛ إذ ساعدَ العربُ الإمبراطورَ (سوزونج) في محاولة إخماد الثورة، ومن بعدها تحوّل العربُ -المشاركون في الحرب- إلى تُجار في الصين، لدرجةِ أن يَذكر أحدُ المؤرخين أنهم أُعطوا ألقابًا صينيّة. وفي القرن 14م، وصلَ الاندماج ذروتَه؛ حيث أصبحَ للعربِ كيان قائم في الصين، جاءَ على إثرِ حياةٍ طويلة من ثوراتهم الداخلية التي ساعدت في إسقاطِ حكمِ (يوان) وسهّلت قدومَ حكم (مينج)، ومن ثَمّ شَكَّلوا نُخبَهم المنتمية للمكان ذاته، وفي تلك الحقبة طُرِحَ الإسلامُ كدينٍ قادر على أن يجمع بين تعاليم محمدٍ العربيّ، وكونفوشيوس الصيني، ويُلحَظ أنَّ هذه القدرة لم تكن باستنطاقِ النصِّ مباشرة، بل باستخدام سياسة (مينج) المكانيّة؛ إذ سَهَّل الزواج بينهما، وأشركَ الأجانبَ في المجتمع؛ ليتطبّعوا بالهويةِ الصينيةِ الجامعة.
وهؤلاء المتطبعون هم مِن أوائل من ألّف الكتبَ الإسلامية باللغة الصينية، كـ(دليل الإسلام) لما تشو، أو(التفسير الصحيح للدين الحق) لوانغ دايو، فهل هذه الكتب تُمَثّل مَزجًا، أم احتواء أحدهما للآخر، أم هو دين جديد جاء من الاتحاد؟ ولِمن أرادَ الإجابة سيستحضرُ ما ذكره المؤرخون مِن أنَّ الحركةَ الدينية في الصين -آنذاك- أخذت طابعًا ثقافيًا شَكَّلتْهُ ثلاثة أمور؛ الأول: إقامة حوارات امتدّت للمقارنةِ بين الإسلامِ والنماذجِ الصينيةِ التقليديةِ، ونموذجٍ تعليميٍّ إسلاميٍّ يطرحُ نفسَه كجزءٍ من المعرفةِ الصينية.
الثاني: تداخل الطقوس والعادات شعبيًا.
الثالث: تطبيق أنماط الثقافة الطاوية على الإسلام، وأفراده.
وهذه الأمور الثلاثة بَنَتْ صِفةَ الإسلام في الصين آنذاك؛ أي أوجدته كجزءٍ أساسيٍّ في الثقافة؛ لهذا أصبح نبي الإسلام -عندهم- من طبقةِ الحكماء، وتعاليمه مكملة للكونفوشيوسيّة؛ من حيث البناء الكامل للحياة، وجوديا ومعرفيا وقيميّا؛ فما نقصَ من أحدهما أُخذ من الآخر.
أما الصين في القرن العشرين فيُستحضر معها النموذج السوفيتي من جهة فرض العقوبات على التنوع الثقافي، والنموذج الأوروبي من جهة أخرى. وقد أنتجَ هذا -مما أنتج- أن نجدَ عِرق (الخان) صَدّروا روايةً أنهم هم الصينيون، فتلقفها الأوروبيون، ليعطوها الشرعية المركزية، ومن ثمَّ إعادةَ تصديرها لصهرِ الهويات في بوتقةٍ واحدةٍ، لهذا أطلقَ بعضُ الباحثين مقولة (طريق جماعة الخان الصينية)، للتعبير عن سلطةٍ مركزية تُعبر عن هيمنة فكرٍ استعماري في مرحلة ما بعد الاستعمار، وتزامن معه خطابات إسلامية تُفكِّر بتفكيره، كانضمامِ بعض شعب الأيغور للحركة الإسلامية لتركستان الشرقية.