اشتهر، رالف ليبزشيتز، في المرحلة الثانوية إثر ربطات العنق التي يبيعها على رفاقه في المدرسة. كان يعرض عليهم ربطات عنق غير مألوفة. تمتلئ بصور مشاهير وشخصيات كارتونية وحروف ضخمة. يشتريها من الباعة الجائلين والأسواق الرخيصة ويبيعها بأسعار مضاعفة على زملائه. نجح في مدرسته، دي ويت كلينتون، من تعزيز رصيده المعرفي والمالي. كان رالف يعود إلى منزله مالئا رأسه بالمعلومات وجيبه بالنقود. لكن رغم كل ذلك كان تعيسا. ربما أتعس طالب في المدرسة. فاسم عائلته كان مصدرا لتهكم بعض زملائه. فهو يشتمل على مفردة (شيت)، وهي لفظة بذيئة في اللغة الإنجليزية. حاولت إدارة المدرسة معاقبة من يسخر منه إثر اسم عائلته، لكنها لم تستطع إيقافهم تماما. كان بعضهم يتحايل على تهديدها بكتابة رسائل ساخرة ويضعها في حقيبته، أو يرددها عندما يدير ظهره لهم. رغم الحزن الذي عاشه طيلة مرحلة الثانوية إلا أن الأسوأ كان في حفل تخرجه. فعندما وزعت إدارة المدرسة (كتاب المدرسة)، الذي يحمل صور طلاب الثانوية وأمنياتهم، ترك الجميع الأمنيات والصور في الكتاب وتحلقوا حول أمنية رالف، التي تكمن في أن يصبح مليونيرا. أمطروه بوابل من التهكم والسخرية اللاذعة بسبب عبارته الحالمة مما دعاه لعدم إكمال الحفل والعودة حانقا وخائبا إلى منزله.

التحق رالف بعد تخرجه في الثانوية بكلية باروك لدراسة إدارة الأعمال وغير اسم عائلته إلى لورين تجنبا لجولة جديدة من السخرية، لكنه لم يتابع دراسته. آثر أن يعمل مندوبا للمبيعات في شركة بروكس بروذرز لاكتساب خبرة تساعده على افتتاح متجر مستقل. بعد عدة سنوات وتحديدا في عام 1967 افتتح رالف لورين، بدعم من مصانع مانهاتن للملابس، متجرا خاصا لبيع أربطة عنق من تصميمه باسم (بولو). وحقق متجره نجاحا كبيرا شجعه على التوسع والدخول في تصميم القمصان والسترات والسراويل والإكسسورات. وخلال سنوات قليلة أصبح اسم (رالف لورين) علامة تجارية معروفة ليس في أميركا فحسب بل في العالم بأسره. وفي سبتمبر 2011 قدرت مجلة (فوربز) ثروته بنحو 6 مليارات كأحد أثرياء العالم.

النجاح الذي حققه رالف لم ينسه رفاقه في المدرسة الذين تهكموا عليه وعلى أمنياته مبكرا. لقد قام في عام 1996 بعد أن بلغت شهرته الآفاق بإحضار (كتاب مدرسته) عام 1957 الذي يضم أسماء رفاقه في المدرسة وصورهم وطلب من سكرتيرته محاولة البحث عمن وضع تحت اسمه خطا. بعد أشهر من البحث والتقصي وجدت عناوين منازل معظمهم واتصلت بهم للتحقق من ذلك. أرسل رالف لكل واحد منهم مجموعة من منتجاته الفاخرة وبرفقتها رسالة بخط يده نصها: "ربما تذكرني وعلى الأرجح لا. لكن أنا أذكرك جيدا. أنت وراء نجاحي. شكرا لك. رالف لييزشيتز سابقا، رالف لورين حاليا". كان رالف يدرك أن تهكم زملائه زاده إصرارا على مواصلة طموحه والوصول إلى مبتغاه. كان يرى وجوههم وهم يسخرون منه كلما تعثر فينهض. لم يكن ذلك الطرد البريدي الأخير الذي أرسله رالف لزملاء فصله السابقين بل كان الأول. لقد حرص منذ أن عثر على عناوينهم أن يبعث لهم أي تشكيلة جديدة.

إن رالف لم يدع كلمات التهكم تحطمه بل تدفعه إلى الأمام. كما أنه لم ينس من أساؤوا إليه، وإنما وجه إليهم درسا بتسامحه وعفوه وقبل ذلك استثماره لتهكمهم لقيادته إلى النجاح. أوصل إليهم رسالة ذكية وحضارية بأنه ما زال يتذكر سخريتهم جيدا، بيد أن هذه السخرية لم تكبح جماح طموحه بل ساهمت في صعوده.

جميل أن نُشعر من أساء إلينا بحجم خطئه حتى لا يكرره معنا ومع غيرنا.

أغلبنا مر أو مرت عليه قصص مشابهة. تعرض أو سمع عن قصص تهكم لا حصر لها. يروي لي صديقي القادم من إحدى القرى النائية في الوطن العربي للدراسة في أميركا أن أحد أبناء جلدته، الذي التقاه فور وصوله في مطار شيكاجو سخر منه عندما أبدى له رغبته في متابعة دراسة الدكتوراه في جامعة شيكاجو، إحدى أعرق الجامعات حول العالم. ونصحه بعدم إهدار سنوات عمره في حلم لن يتحقق، قائلا: "أنصحك، أن تدرس لغة إنجليزية ثم تعود لأهلك وتبحث عن وظيفة". هذا ما قاله أمامه. ولا نعلم ماذا كان يبطن في جوفه. صديقي اليوم لم يتخرج من شيكاجو ولكن تخرج من جامعة لا تقل عنها عراقة وأهمية وربما تتجاوزها في بعض التخصصات وهي جامعة (إم آي تي)، التي تخرج منها أهم العلماء المعاصرين والسابقين. صديقي يتمنى لو أنه حصل على اسم مواطنه الذي أوصد الأبواب في وجه حلمه في مطار شيكاجو ليخبره بما وصل إليه اليوم.

علينا ألا نقلل من حلم أي إنسان مهما كان. فمن نراه شخصا بسيطا اليوم ربما يكون شخصا مدهشا وبديعا في الغد. النجاح ليس أن تحقق النجاح، بل أن تستمر فيه وتحافظ عليه. فطالما كانت تسحرنا أسماء مبكرا، في حين نراها باهتة ومرتبكة اليوم. وما كان يعد نجاحا في الماضي ربما سيعتبر تقليديا في المستقبل. كل مرحلة لها نجومها ومواصفاتها ومعاييرها.

ينبغي ألا نسمح لانطباعاتنا السريعة أن تقودنا لإفشاء أو حتى إبطان أي تنبؤ سلبي تجاه أي أحد. من الحكمة أن ننفق أوقاتنا في تطوير قدراتنا وتنمية ذواتنا. من ينشغل بالآخرين والتوقعات فلن يجد وقتا للإنجازات.