يقرن المسيري تكوينه الأساس بالإحساس بالتاريخ، المصطلح الذي اختلف المؤرخون في معناه، فنجد أحدهم يحصره بفعلٍ كفعل الفراعنة؛ حيث تُحنِّط عظماءها؛ إحساسًا بقيمة التاريخ. وآخر يراه في الحضارات التي تؤمن بحركة التاريخ ما بين ماض وحاضر وآت، لا تثبيته في الحاضر كفعل الفراعنة، إلى آخر الاختلافات المتعددة، لكن نلحظ أنَّ أساس الاختلاف هنا مرتبط بقيمة الفرد، المُدرك لحركة التاريخِ، فالموثّق لنوعية الإحساس به، ومن ثمَّ فإن حياة الفرد تُمثل أهمية كبرى في تصور الناس للتاريخ، ومن هنا تكون السيرة الذاتية فرعًا عن الإحساس بالتاريخ. أي أنَّ تسجيل الناس لأيامهم، وحروبهم وأعمالهم، إلخ؛ متأثر بإحساسهم بتاريخ أبطال تلك الأيام، من جهة أولى، أو كما فسّر بلوتارخس -في ما كتبه عن عظماء اليونان والرومان- المبادئ السياسية -التي هي نتاج الأفراد- من جهة أخرى.
وهذه مرحلة عاد إليها المسيري لمَّا ترك الماركسية، وأصبح إسلاميًا، أعني أنه أعاد فرديّة السيرة في التاريخ؛ بما يخدم مرحلته الإسلامية التي دخلها، فالمسيري حين يُعرِّف النموذج يشير بأنه تصوّر في ذهن الإنسان بالمطلق، أخذه من الوقائع والأحداث، ولهذا يُفسر الواقع من خلاله. إلا أنَّ هذا الإنسان عند المسيري تحوّل إلى معنى خاص؛ هو الإنسان الروحي بالضرورة، أي الذي يضع نماذج كبرى ثابتة، لتصبح -من خلاله- العملية الكبرى هي رصد النماذج الإدراكية، وستكون بالضرورة انعكاسًا لذلك الإنسان الروحي.
لكن في الوقت نفسه لم يتخلَّ المسيري عن منجز تاريخيٍّ هيجلي ومن ثمَّ ماركسي، يجعل للتاريخ فلسفته الخاصّة، ومن ثم تخرج السيرة الذاتية من عهدته، بكونها تضع حدودها في الأحداث البيولوجية التي تقع بين الولادة والوفاة، وذلك إيمانًا بمنطق التاريخ الخاص به، لهذا نرى توينبي يعترف بأنَّ أفكارَ جان جاك روسو نقلت العالم الحديث إلى عالم أحدث، ومع ذلك لا يرى أنَّ كتاب (الاعترافات) فرع عن التاريخ، بل هو سيرة مستقلة.
هنا نرى كيف لفّق المسيري لنفسه نموذجا يؤطر رحلته الفكرية، يجمع بين رؤى قبلية ورؤى بعدية، لهذا نلحظ أنَّه سَمّى كتابه (رحلتي الفكرية)، وليس سيرتي، ثم أرفق بالعنوان (سيرة غير ذاتية غير موضوعية)، أي دون أن ينسبها إليه، وهذا تأكيد على منطق ما أسميتُه أسلمة التاريخ بالسيرة الذاتية، وهذا مفسر لقوله «أنا ماركسي على سنة الله ورسوله». حيث هي ليست طُرفة لإضحاك المتلقي، بل معنى مهم في فكر المسيري؛ لأنَّ رحلته تقوم على أساس أن يكون مضمونها جزءًا من التاريخ، من جهة التأثير والتأثر العام، وفي الوقت نفسه تكون مادته وحصيلته فردية، وذلك يجمع ازدواجية إسلامية تقوم على أهمية الجماعة وتاريخها في الدنيا، وفي المقابل فردانية الوقوف أمام الله في الآخرة.
وأما عمر فروخ فلم يكتب سيرة فكرية تعبر عن منتجه الكامل، كما أشرتُ في المقالة السابقة المعنونة بــ (أسلمة التاريخ بالسيرة الذاتية)، بل وضع سيرة صحفية، لكنه يلتقي مع المسيري بازدواجية السيرة والتاريخ، أو ازدواجية فردانيته مع رغباته في تقرير نطاق مجتمع إسلامي، أو بالنموذج الإسلامي المحدث في تفسير الحياة، فالاثنان اختارا من حياتيْهما موضوعات تتلاءم مع النماذج المعبرة عن إسلامية الحدث، ومن المهم هنا أن أشير إلى ما نصّ عليه عمر من أنَّ انتقاءاته الحياتيَّة ذات مغزى تثقيفي، وأنَّ ما يقصّه وقائع اتفقت له في الحياة اقتنصها لغايات تعليمية. وفي الوقت نفسه يحاول أن يتبرأ من وجود آراء خاصّة له.
إلا أنَّ عمر لم يكن ماكرا -بالمفهوم الهيجلي- كالمسيري، ربما لإسلاميته المتّصلة، -دون أن ننفي تأثره بمفهوم التاريخ بعد هيجل كما يورد في مطلع سيرته-، لكنه كان ماكرا بالمفهوم العربي، لهذا كانت سيرته عبارة عن أسلمةٍ بالمقلوب، حيث يعتمد على أن مَن يعرض حياته متّصلة بالأحداث العامة أو منعكسة عنها فإنَّ سيرته تحقق الغاية من الحياة بالضرورة، ومن ثم هي تاريخ. وهذا جزء من مكر سيرة عمر، إذ لا تصنف تعليمية وعظية، ومع ذلك تنقل لك تاريخ الواجب الإسلامي في قالب سيرة فردية. لهذا نرى مكرا واضحا في طرح عمر للوقائع؛ سواء في موضوع الجنس، أو الخمر، أو التربية، أو التعليم، أو النظرة لليهود، أو السياسة، أو غير ذلك من موضوعات كتابه، كمقالة (حساب الأيام، ليلة الإسراء)، متنُها لوم الناس على عدم معرفة الحساب، وأما مكرُها فهو الدعوة لتاريخ المسلمين، والنمط القمري الذي يجعل من ترتيب الأيام مغايرا لما في الحساب الإفرنجي، لهذا فإنَّ عمر فروخ وجه آخر لأسلمة التاريخ بالسيرة الذاتية، بعد الوجه التنظيري لعبد الوهاب المسيري، وكتابه.
التفاتة:
يصف الجاحظ -في الجزء الثالث من كتابه الحيوان- أن مَن يتورع عن ذكر الأمور الجنسية، ويتصنع العفاف والكرم فإنه لا يحمل منها إلا بقدر هذا الشكل من التصنع، ولم يكشف لنا إلا مظهرا من الرياء المتمكن.